إن الأمن والاستقرار والحياة الكريمة هي من الأمور المهمة التي ينشدها الناس ويحتاجونها في كل زمان ومكان لحفظ وجودهم وكرامتهم، ولأجل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أهمية هاتين النعمتين العظيمتين: الأمن والرزق عندما أخبر عن قصة آدم عليه السلام مع إبليس، والتي أدت إلى خروج سيدنا آدم من الجنة والهبوط إلى الأرض. فقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة (آية 36): " وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " والأرض لا تكون مستقرًا إلا بتوافر الأمن فيها، والمتاع هو الخير والرزق في الأرض. واستتباب الأمن لا يتحقق إلا بالاستقرار السياسي للدولة، والتلاحم بين الراعي والرعية، والتوافق بين القاعدة والقمة. ومن أعظم النعم التي أنعم الله بها على المملكة العربية السعودية : الاستقرار السياسي منذ أن وحدها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، فنعمت بالأمن والرزق والرخاء طوال العقود الماضية. ولا أدل على هذا الاستقرار من سَلاسة انتقال السّلطة والإمامة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يرحمه الله إلى خلفهِ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يحفظه الله، ومبايعته بالملك قبل تجهيز جنازة سلفيه. وكان هذا مثار دهشة وإعجاب كل شعوب الأرض شتى، وهو عينُ ما أجمعت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ بايعوا أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة قبل تجهيز جنازة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم. فنحمدُ الله تعالى على أن وفَّقَ ولاة أمرنا حفظهم الله تعالى لإصابة السنة في هذا الأمر العظيم. هذا الاستقرار والأمن الذي ننعم فيه صنعه قادة وأبطال عظماء سخروا أنفسهم لخدمة الدين وهذا الوطن الغالي من خلال إنجازاتهم وجهودهم التي نراها اليوم. والملك عبد العزيز رحمه الله عليه لم يؤسس وطنًا ودولة كبيرة بحجم المملكة العربية السعودية فحسب، بل أعد وجهز وربى أبناءه من بعده، سعود وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله طيب الله ثراهم ثم الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله الذي تسلم الراية من بعدهم ، كقادة وحُكّام لإكمال المسيرة التي بدأها لتحقيق مبدأ العدل والاستقرار في ظل تعاليم الإسلام السمحة. وتواكب الجنادرية في دورتها هذا العام طفرة ثقافية اقتصادية تمر بها المملكة خلال هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله، حيث تمكن من جمع أنماط عدة من الثقافة تليق بحجم المملكة وثقلها في العالم الإسلامي. وتأتي الذكرى الثالثة المباركة التي تحل علينا لبيعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والتي بايعه فيه شعب المملكة العربية السعودية مَلِكًا للبلاد وخادمًا للحرمين الشريفين. وذلك في فترة تاريخية حرجة بل تعد من أخطر المراحل التي تمر بها المنطقة العربية، والتي تكتنفها الأحداث الجسام والصراعات السياسية والمذهبية والاقتصادية. وهذه المرحلة تحتاج للتعامل معها رجلاً كسلمان بن عبد العزيز يحفظه الله ، والذي تولى مسؤولية إمارة منطقة الرياض خلال خمسة عقود كاملة، ثم كان وزيرًا للدفاع ثم وليًا للعهد، ثم ملكًا للبلاد. وظل طوال هذا الزمن دائمًا مستشارًا أو مساندًا لإخوانه الملوك، مما جعل منه رجلَ هذه المرحلة، حيث أثبت للعالم والتاريخ أنه ملك الحزم والعزم الذي يواجه المواقف والمخاطر التي تهدد المنطقة، والذي يقود بلده إلى مزيد من التقدم والتطور والإصلاح، ويحقق لشعبه مزيدًا من الرخاء، ويريد بإخلاصه وعزيمته أن يعيد للأمة عزها وكرامتها، وهو ملك التاريخ السعودي وراعي العلم والثقافة والمعرفة. وتلعب الثقافة بجميع مجالاتها دورًا مهمًا في حياة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يحفظه الله، ولا سيما الثقافة السعودية، التي اكتسبها من خلال عشقه للكِتَاب والقراءات الفكرية والثقافية المتميزة في مختلف المجالات المعرفية، إضافة إلى اطلاعه الواسع للتاريخ الإسلامي والتاريخ السعودي. ولعل من الصعوبة بمكان أيضًا الإحاطة بكل الجوانب اللافتة في شخصية شكلت الثقافة مختلف جوانبها مثل شخصية الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله. فالثقافة هي ديوان المعرفة الحياتية لخادم الحرمين الشريفين. هذا الاهتمام الذي بدأ منذ فترات مبكرة من حياته كوَّنَ لديه معرفة واسعة ونظرة واقعية للتاريخ عبر إبحاره في متون الثقافة، بالرغم من مشاغله اليومية كمسؤول سياسي وقيادي تحمل مسؤوليات كبيرة وتجشم عناءها طوال حياته أميرًا ثم وليًا للعهد، ثم ملكًا. وبالرغم من هذا كله فإنه ظل متمسكًا برؤيته للثقافة على أنها صناعة حياة. فقد كان يقرأ باهتمام بالغ ويشارك في مناقشة العلماء والأدباء ويساعدهم على تحقيق أعمالهم الثقافية، وكان فاحصًا للتاريخ الإسلامي وتاريخنا الوطني ، الأمر الذي شكل له ذاكرة متقدة بمصادر مرجعية متنوعة ثقافيًا، وليس أدل على ذلك من اقتنائه مكتبة ، تعد من أكبر المكتبات الخاصة في المملكة العربية السعودية، وهي مكتبة ثرية عامرة بأكثر من 29 ألف عنوان و120 مجلدًا في شتى أنواع الفنون والمعرفة، وخاصة فيما يتعلق منها بالتاريخ السعودي. ومن جوانب عنايته يحفظه الله أيضًا بالثقافة، أنه كان يخصص جزءًا كبيرًا في مجلسه الأسبوعي في قصره عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض لمناقشة موضوعات ثقافية متنوعة بحضور نخبة من العلماء والمثقفين السعوديين وغير السعوديين. هذه اللقاءات والاجتماعات أسهمت بشكل كبير في دعمه للثقافة ومختصيها والعاملين عليها من خلال المبادرة في طرح فكرة إنشاء مكتبة وطنية بمناسبة احتفاء أهالي الرياض بتولي الملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله مقاليد الحكم. لذا فكان له الفضل في إنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية، والتي تعكس حرصه واهتمامه بمواكبة التطورات العالمية في خدمة الثقافة المحلية وحفظ الموروث الوطني السعودي وتوثيقه وتسجيله بصور دولية كمنتج فكري سعودي ضمن نظام الإيداع السعودي للإنتاج الفكري. كذلك لم يكتف حفظه الله بإخفاء عشقه بتوثيق التاريخ السعودي المكتوب والمقروء والمسموع من خلال تأسيسه دارة الملك عبد العزيز، والتي أنشئت بموجب المرسوم الملكي في الخامس من شعبان عام 1392 ه الموافق 1972م، وقد تم إنشاؤها لخدمة تاريخ وجغرافية وآداب وتراث المملكة العربية السعودية. وقد شهدت الدارة نشاطًا ملحوظًا منذ تشرفه حفظه الله برئاستها، حيث كان ولا يزال حريصًا على العناية بأدوارها في توثيق التاريخ الوطني والإسلامي وحفظ واقتناء المصادر والوثائق الأصلية لتكون أرشيفًا وطنيًا يحكي قصص البطولات والأحداث التي دارت خلال فترة الدولة السعودية الأولى والثانية والحديث. وقد أقامه ونفذت الدارة العديد من اللقاءات العلمية والمشروعات الوطنية في توثيق التراث العربي والسعودي المميز. هذا الحراك الثقافي داخل أروقة الدارة نتج عنه موافقة الملك سلمان حفظه الله على تأسيس جائزة باسم " جائزة ومنحة الملك سلمان بن عبد العزيز للدراسات وبحوث تاريخ الجزيرة العربية". وكذلك مساهمته يحفظه الله بالدعم السخي لأعمال الجمعية التاريخية السعودية وجمعية التاريخ والآثار بدول المجلس التعاون الخليجية. ومن المآثر التي تحسب لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في مجال الثقافة ولا تنسى، في حرصه على الاحتفاء بمناسبات الوطن من خلال مبادرته بالإعلان عن مناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية في عام 1417ه /1997م لتكون في شهر شوال 1419ه / 1999م. ويعد هذا العمل من أضخم الأعمال الثقافية التي تؤرخ للدولة السعودية الحديثة. حيث كان حفظه الله يقف وراء هذه المناسبة ويشرف عليها ويخطط لها ويقودها للنجاح، وذلك باعتبار أن هذه الاحتفالية كبيرة وعظيمة بحجم المناسبة وبوصف فتح الرياض حدثًا مهمًا وفارقًا في تاريخ جزيرة العرب، فهو اللبنة الأساسية في تأسيس المملكة العربية السعودية. ولأهمية هذه المناسبة شاركت جميع الجهات الحكومية الجامعات ومراكز البحوث والمكتبات في نشر إصدارات علمية عديدة بهذه المناسبة ، حيث بلغ مجموع ما تم نشره أكثر من 400 إصدار علمي، إضافة إلى إلقاء 160 ندوة ومحاضرة، وإقامة 60 معرضًا للكِتاب والصناعات، إلى جانب الأفلام الوثائقية والفعاليات الثقافية الأخرى. كما أقيم مؤتمر علمي عالمي بهذه المناسبة بعنوان " مؤتمر المملكة العربية السعودية في 100 عام" نوقش فيه ما يقارب 200 دراسة وبحث بمشاركة متخصصين من داخل المملكة وخارجها. ومن أبرز الجهات التي أسهمت في دعم المكتبة العربية بنشر إنتاج فكري مميز، ومتنوع في مصادر المواد العلمية وشمولها للجوانب التاريخية والحضارية والمعلوماتية المختلفة بهذه المناسبة : مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض التي جعلت في مقدمة اهتماماتها متابعة ونشر النشاط العلمي المتعلق بمجالات تاريخ المملكة العربية السعودية، حيث أصدرت خمسة عشر عنوانًا بهذه المناسبة ومن أبرزها: 1. كتاب " شبة الجزيرة العربية في كتابات الرحالة الغربيين في مائة عام" / للبخت زيمة، ترجمة غازي شنيك. 2. كتاب " موسوعة الملك عبد العزيز الدبلوماسي" / من إعداد: (فهد السماري وآخرون). 3. كتاب " الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته السلفية " / للدكتور محمد السكاكر. 4. كتاب " الرياضالمدينة القديمة " / لويليام فيسي، ترجمة الدكتور عبد العزيز الهلابي. 5. كتاب " أسعد الجزيرة قال لي" / لمحمد رفهت المحامي. 6. كتاب " ابن سعود ملك الصحراء تأسيس المملكة العربية السعودية" / لإيف بيسون، ترجمة الدكتور عبد الله الدليمي. كذلك أسهمت مكتبة الملك عبد العزيز العامة في إنشاء قاعة متخصصة تحت مسمى قاعة الملك عبد العزيز، تضم مجموعة من الكتب التي تركز في محتواها على الملك عبد العزيز وصفاته وكفاحه وعلاقاته السياسية الداخلية والخارجية، إضافة إلى دوره في تأسيس الدولة المدنية. كذلك قامت المكتبة أيضا بتأسيس قاعدة معلومات توثيقية إلكترونية عن الملك عبد العزيز، وتضم هذه القاعدة كل ما نشر عن الملك عبد العزيز أو عن المملكة العربية السعودية في عهده في جميع الأبعاد والاتجاهات: التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والفكرية والصحية والتنموية. وتغطي القاعدة جميع أشكال أوعية المعلومات من كتب ومقالات دوريات ورسائل جامعية ووثائق وأعمال مؤتمرات وندوات ... الخ. وتغطي القاعدة بالإضافة إلى اللغة العربية الإنتاج الفكري المنشور بأي لغة من اللغات الحية (خصوصًا الإنجليزية والفرنسية والألمانية) الذي يتناول تاريخ المملكة ابتداءً بمولد الملك عبد العزيز في عام 1292ه وانتهاءً بوفاته رحمة الله في عام 1373ه. كما تضم القاعدة أيضًا كل ما كتب عن وفاة الملك عبد العزيز. وقد بلغ عدد تسجيلاتها حتى الآن: 13464 تسجيلاً ببليوجرافية (8290 باللغة العربية و5172 باللغات الأجنبية). ومن حرص واهتمام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بهذه المكتبة أنه دشين خلال العام الميلادي فرع جديد لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة في جامعة بكين في يوم 18 جمادى الآخر 1438ه الموافق 17 مارس 2017م، وذلك أثناء زيارته الرسمية للجمهورية الصينية الشعبية واستلامه – حفظه الله – درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة. أيضًا ومن الأمور التي تحسب لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان أيده الله لخدمة الثقافة، والتي أسعدت وأبهجت المتخصصين والمهتمين بحفظ المخطوط والتراث العربي الأصيل وتوثيقه وفق الأنظمة الرقمية الحديثة بحيث يسهل تخزينه وتنظيمه ثم إتاحته بصورة إلكترونية وصيغ ووسائط متعددة، موافقته الكريمة على إنشاء مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية بالمدينةالمنورة، وذلك بناء على قرار مجلس الوزراء الصادر في يوم الاثنين 15/9/1437ه الموافق20/6/2016 م. وهذا القرار سيسهم في إعادة تنظيم المكتبات الغنية بمخطوطاتها النادرة وترميمها وتصنيفها وجمعها تحت سقف واحد، بحيث يسهل الوصل إليها والتعامل معها. علما بأنه يوجد حاليًا في المدينةالمنورة أكثر من 30 مكتبة وقفية، بها ما يزيد على 20 ألف مخطوط. وكذلك صدور الأمر الملكي بإنشاء هيئة تطوير الدرعية وذلك بهدف إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي، حيث سيكون بمثابة مشروع سياحي ثقافي حيوي، وسوف يضم أكبر متحف إسلامي في الشرق الأوسط ، إضافة إلى مدينة طينية تشمل مكتبة الملك سلمان ومواقع احتفالات وأسواق ومجمعات ومطاعم. ومن القرارات الحكيمة والصائبة التي أصدرها الملك سلمان يحفظه الله، قرار دمج وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم تحت مسمى وزارة واحدة باسم "وزارة التعليم". هذا الدمج يؤدي إلى تحسين مخرجات التعليم وردم الفجوة بين التعليم العالي والتعليم العامة بالمملكة العربية السعودية. كما أن قرار الدمج سيترتب عليه استغلال الموارد البشرية والمادية والتعليمية بسياسة واحدة. هذه القرارات الحكيمة جاءت لتنفيذ خطة رؤية المستقبل، رؤية المملكة العربية السعودية 2030، والتي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين للحفاظ على الوطن ومكتسباته ورعايته للمواطن واحتياجاته، وإطلاقها ويشرف عليها سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان من أجل العمل على استعادة بناء التراث الوطني، وتحويله من مجرد حلم إلى واقع ورقم صعب يحتل مكانًا مهمًا ضمن رؤية المملكة 2030، التي تستند على 3 محاور هي المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح. وإذا كان لي كلمه أختم بها هذه المقالة في توثيق إسهامات راعي الثقافة الأول في بلادنا خادم الحرمين الشريفين ملك سلمان بن عبد العزيز، فأدعو الله أن يسدد خطاه فيما فيه صلاح للبلاد والعباد ، وأن يسدد مساعيه الرامية لتحقيق رؤية مستقبل زاهر وحيوي وطموح . والله الهادي لسواء السبيل. *المشرف على بوابة مكتبة الملك عبد العزيز العامة الإلكترونية