بعد انفصال القانون المتسارع من الفلسفة واستقلاله، وتسارع الحوادث التي أملت على كل المجتمعات ضرورة بناء قواعد وأنواع قانونية تنظم حياة الناس وتندرج تحتها، وكان منها القانون الجنائي، وهو ما يصنف لدى فقهاء الإسلام بنظام العقوبات والتعزيرات، ولن يعوق أي حالة تندرج تحتها من تكييف لا لبس فيها، ولعل أحدها هو (التصالح المالي)، وهو مصطلح حديث سببه تشكل الفساد بأشكال متنوعة وخفية؛ حيث إن الفساد المالي ينمو ويتكاثر ويتلون مع كل حالات تغير المجتمعات وتطورها، مثله مثل التزوير، وهو أحد أشكال الفساد، فمهما تطورت بنية مكافحة التزوير سوف يبقى التزوير في كل بلاد العالم! ونحن أمام عمل جديد ودؤوب لمكافحة الفساد بكافة تمظهراته؛ حيث إنه أهم عائق من عوائق أي تطور وأي رؤية، فلابد من معالجة صارمة لاسترداد الأموال التي كان مكانها الأولى التطور والبناء والازدهار الاقتصادي وحل جميع هواجس وهموم المواطن ومعاناته إلا أن هذه المعالجة لابد أن تكون بحكمة وعقل وبمبضع جراح خبير وواعٍ لأي تبعة تؤثر على المجتمع، كما أنها تستهدي بالمصالح المرسلة المناطة بصلاحيات ولي الأمر الشرعي، والتي قرر فيها إنشاء جهاز جديد له كامل الصلاحيات في محاربة ظاهرة الفساد، ولا شك أنها مهمة صعبة وشاقة أعانهم الله عليها، وكلنا يعلم أن المسار القانوني والقضائي قد لا يكون رادعًا ولا منتجًا مفيدًا للمجتمع أو خزينة الدولة أو حتى في استرداد أموال اتخذت فيها ألف حيلة، لعل أحدها تهريب الأموال العامة للخارج أو استغلالها في نشاطات وفعاليات قانونية، وهي أموال أصلها مشبوه وعليها كل علامات الاستفهام، إضافة إلى أن المسار القضائي والقانوني قد يطول دون جدوى اقتصادية واجتماعية، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه الكرام من أخذ حق ليس لهم، وهو من حكم!! لأن أحدهم ألحن وأقوى بالحجة من الآخر! والمتهم ليس مقصود الشرع أو النظام تعذيبه بل إصلاحه ليكون عامل بناء لإصلاح ما أفسده! خصوصًا إذا كان شخصية اعتبارية لها وزنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولعل نظرة فاحصة لتجارب الدول والمجتمعات في (التصالح المالي) تؤكد نجاح هذه التجربة وفعاليتها وجدواها التي لا تخطئها العين! وأي فقيه شرعي أو قانوني يدرك أن مثل هذه التجارب في (التصالح المالي) هي عقوبات جديدة وبديلة أملتها الظروف الحالية والراهنة، والتي فيها مصلحة شرعية يراعى فيها المجتمع والمتهم والثقافة العامة، ولنا في أعظم القواعد الشرعية أسوة حسنة ومنهج وهي أن (الصلح خير) كما قال تعالى. فهم أبناء الوطن وإن جاروا، والوطن يسترد ما أخذ منه بالطريقة التي تحفظ للوطن سلامة أمنه ومقدراته وتماسكه.