يأتي الموت على غرَّة ليخطف الحبيب من بين أحبابه، والأثير من بين أهله وجلسائه، يأتي ليذكِّرنا بأن دار الفناء ماهي إلا معبر لدار البقاء والخلود، وأن الله اختص نفسه عز وجل بالأزلية والديمومة والبقاء، فنذكر هذا حينًا من الدهر ثم ننساه ونحن نسير في دروب الحياة نجمع المال، نشيِّد الدُّور، وربما بطشنا وظلمنا واعتدينا. تملَّكني هذا الشعور عندما رنَّ الهاتف بعد صلاة يوم الجمعة الماضي وكان على الطرف الآخر العزيز السيد طريف هاشم ليخبرني بأن سعود الحجام قد قضى، ومن قبله سعود قطان -رحمهما الله-، وعادت بي الذاكرة إلى عقود مضت وتحديدًا نهاية السبعينيات الهجرية عندما التحقت بالمدرسة المُحمَّدية التي كان مقرها «حوش منصور»، ومع أنني لم أُمضِ فيها إلا شهورًا قليلة إلا أنني أتذكر بعضًا من رموزها التربوية مثل: الأستاذين محيميد وجعفر سبيه وذلك الفتى اليافع الطويل القامة والممتلىء حيوية، والذي كنا مع صباح كل يوم نلتقي به في فناء المدرسة ونتلقى على يديه التمارين الرياضية. لقد كان المعني بهذا الواجب التربوي هو المرحوم الأستاذ سعود حجَّام. وغادرت المُحمَّدية والتحقت بالعلوم الشرعية، إلا أنني كنت أتردد على حي (التاجوري) حيث يسكن بعض أقارب الوالد -رحمه الله-، وكان يقع على مدخل هذا الحي دار متميزة في بنيانها وعرفت أنها دار آل الحجَّام، وكان يقابلها دار هي الأخرى متميزة وعرفت أنها دار الشيخ والوالد عبدالرحيم عويضة -رحمه الله- والذي أصْهر إليه المرحوم الحجام، وكان الفتى (سعود) يقطع المسافة مع عصر كل يوم من دارهم تلك إلى حانوت صديقه محمد الحيدري الواقعة في باب الشامي، وكان الحيدري اسمًا لامعًا في الميدان الكروي وربما كان هو في نادي أحد وهاشم شيحة في العقيق، وعبدالوهاب قطان في بور سعيد من أبرز الرموز الرياضية في المدينةالمنورة في تلك الحقبة، وعرفت هؤلاء وسواهم ولكن معرفتي بهاشم شيحة كانت الأوثق. وقضى الحيدري سريعًا وربما لم يبلغ العقد السادس من عمره، كان رحمه الله عذب الحديث وحَسَن المعشر وحاضر البديهة، وكان فقد سعود في صديقه كبيرًا، وكان -رحمه الله- يتعاطى الأدب وربما وجد باب أسرة الوادي المبارك مفتوحًا أمامه، مع أن الأسرة في تلك الحقبة كانت منغلقة على نفسها إلا من شخصيات محدودة ويأتي اسم المربي والأديب محمد حميدة والشاعر حسن الصيرفي في مقدمة الأسماء الأكثر قدرة على التعاطي مع الجيل الصاعد من المبدعين. ولقد انفتح الابن والناقد الدكتور محمد الدبيسي وثلة من مجايليه على الصيرفي الذي اجتمعت في شخصيته مواهب عدة. *وإذا كنتُ قد حاولت أن أذكر شيئًا عن حياة الفقيد الحجام، فواجب الزمالة وصلة الرحم يقتضي أن أذكر شيئًا عن الراحل الآخر الأستاذ والمربي والمبدع سعود عبدالله قطان، والذي كان يسكن في الحي الذي نشأتُ فيه -أقصد العنبرية-، ولقد عرفت كذلك حانوت والده في سوق القفَّاصة، فلقد كان شيخًا لطائفة (المنجِّدين) وكان رجلًا وقورًا، وكنت قد اطلعت على نماذج من الإبداع الشعري الذي كان يقرضه، كما كان كاتبًا مسرحيًا مجيدًا، وليس بين يدي من ذلك الإبداع نماذجُ أستشهدُ بها، ولكنني أتطلع من الزملاء الكرام في النادي الأدبي أن يجمعوا ما تناثر من إبداعه الأدبي. رحم الله الفقيدين اللذين استقرت أجسادهما في بقيع الغرقد حيث تُنزَّل الرحمات وتُمحق السيئات، وتلتقي الأرواح في عالم الغيب، بعد أن غادرت راضية ومطمئنة عالم الشهود، وسبحان من جعل في الممات قدرته، وفي القبور قضاءه، وفي القيامة مملكته، وفي الحساب هيبته، وفي الميزان عدله.