* لستُ من المحسوبين على أبي مدين، ولم أكن من رجاله وأتباعه، عندما كان رئيسًا لنادي جدة الأدبي لمدة تقارب ربع قرن من الزمن، ولكن لجيل الروّاد حق علينا في أن نذكر مآثرهم، ونشيد بإنجازاتهم الفكرية والأدبية، ومن يَعُدْ لسيرته الذاتية التي سمّاها (حكاية الفتى مفتاح)، يرَ كم ناضل هذا الرجل في حياته؛ ليصل من بلده إلى البقعة الطاهرة -المدينةالمنورة- ويدرس في أشهر مؤسسة تعليمية في تلك الحقبة (دار العلوم الشرعية)، والتي تم تأسيسها على يد -المغفور له- السيد أحمد الفيض آبادي في أواخر الحقبة الهاشمية، وبداية الحقبة السعودية، وقد تخرّج في هذه المدرسة جيل ساهم في النهضة العلمية والأدبية في بلادنا من أمثال المشايخ والأساتذة: محمد الحافظ موسى، وعبدالمجيد حسن الجبرتي، ومحمد عمر توفيق، وعبدالعزيز الرّبيع، وعبدالعزيز الرفاعي، ومحمد هاشم رشيد. ويبدو أنّ الأستاذ أبا مدين من تلك القِلّة التي أفادت من الشيخ محمد الحافظ موسى، سواء في حلقته التي كان يعقدها في رحاب المسجد النبوي الشريف، أو في منزله الذي أقامه منذ ما يقارب من نصف قرن من الزمن في منطقة عروة، حيث الجموَّات، ووادي العقيق، وأذكر أنّه من وفاء الأستاذ أبي مدين لشيخه المحافظ قد دعاه قبل ما يقرب من عقدين من الزمن لإلقاء محاضرة في نادي جدة الأدبي عن تجربته في القضاء الشرعي. * كما اتّخذ مبادرة غير مسبوقة، فأقام ندوة عن الشيخ محمد سرور الصبّان، ودعا إليها الأستاذ الأديب حسين قاضي -رحمه الله-، والشيخ إبراهيم غلام، وآخرين، فمآثر الشيخ الصبّان على حياتنا الفكرية والأدبية والإدارية هي متنوّعة وثريّة، ولعلّ هذا ممّا حفّز المرحوم الأستاذ هاني ماجد فيروزي لتدوين سيرته، وسبقه إلى ذلك المرحوم الأستاذ عبدالله عريف في كتابه عن الصبان، والذي أصدره في بداية الثمانينيات الهجرية بعنوان (رجلٌ وعمل). * ولقد دوّن الأستاذ أبو مدين في كتابه القيّم (هؤلاء عرفتُ) ما يعرفه عن الشيخ الصبان، مستشهدًا بما كتبه بعض مجايليه عن مآثره كالزيدان، والعوّاد، وعزيز ضياء، وعبدالعزيز الرفاعي. وكنتُ في مطلع العمر في طيبة الطيبة قد قرأتُ معظم ما كتبه ذلك الجيل الرائد عن الصبان، وشحاتة.. فلقد رحلا عن دنيانا في وقت متقارب من عام 1391/ه في البلد العربي -مصر-، ولعلّي أدوّن هنا هذا المقطع المُدهش والرائع الذي كتبه الأستاذ الكبير عزيز ضياء، ويقول فيه: (والرجل الذي شُيّع إلى مثواه الأخير في مكة هو (الشيخ)، ولا أحتاج أنا ورهط من هؤلاء الذين ما يزالون على دربه من أصدقائه، أن نقول أي شيخ هو، إذ ليس عندنا وليس في أذهاننا سواه.. فإذا وُجد مَن يجهل مَن نعني قلنا إنه (محمد سرور الصبان)، واليوم وقد ارتفعت عنا -بلحاقه بربه- تهمة التزلّف والمَلَق والجري المألوفة وراء الفرض، نستطيع أن نقول إنه (الظاهرة النادرة) التي ودّعناها.. انظر هؤلاء عرفت: ص15-71. * كما ضمّ الكتاب نفسه موضعات كُتبت بأسلوب سردي جميل عن شخصيات علمية وفكرية وأدبية أخرى من أمثال: محمد الحافظ موسى، حسّونة البسطي، محمد حسن عوّاد، محمود عارف، حسن بن عبدالله آل الشيخ، محمد الشبيلي، عبدالله الغذّامي، حسن أبو ركبة، وسواهم، وفي الفتى مفتاح يذكر أستاذنا أبو مدين شخصيات عرفتُها وخصوصًا تلك التي تلقينا عنها شيئًا من العلم في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أمثال الأساتذة: أمين الطرابلسي، وعبدالرحمن عثمان، والد الدكتور الشاعر والأديب أسامة عثمان وإخوته، ورجب أبو هلال الذي تعلّمت في دار العلوم الشرعية كيف أنطق الحرف، وأكتبه، وأتهجاه، والأستاذ السيد عمران الحسيني -عم الشاعر ماجد أسعد الحسيني- والعم الكريم حمزة أبو غرارة، والد زميل الدرس الصديق الدكتور علي أبو غرارة وإخوته البررة، ولعلّ المتعمّق في قراءة (الفتى مفتاح)، و(هؤلاء عرفت) يمكن أن يضع يده على تأثّر أبي مدين بعميد الأدب العربي الحديث الدكتور طه حسين، وخصوصًا لجهة أسلوبه السردي -أو السهل الممتنع- الذي كتب به أروع مؤلفاته من أمثال: على هامش السيرة، والأيام، وحديث الأربعاء، ودعاء الكروان. * وينقل الأستاذ أبو مدين صورة حيّة عن زيارة العميد لبلادنا سنة 1374/ه -1955/م، وهو ما جمع شتاته الابن والزميل الناقد السيد حسين بافقيه، في كتابه عن هذه الزيارة، وما يتصل بها من كتابات الأدباء السعوديين عنه، وأهداه إلى الأستاذ أبي مدين. يقول أبو مدين مصوّرًا وقوف طه حسين متحدّثًا في جدة تحت مظلة اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية اجتماعها في جدة (ويقف الرجل -أي طه حسين- في سمت الكبار، آخذًا في الحديث، بتلك العذوبة النادرة، كأنه نبعٌ زلالٌ قراحٌ يفيض سهلاً متدفقًا في تلك التموّجات التي تشبه السيمفونية المتميّزة في إيقاعها وتأثيرها على السامعين، لا لحنَ ولا توقفَ، ولا يُرتج عليه، تكلّم أربعين دقيقة متواصلة، وكان عمره يؤمئذٍ ستًا وستين سنة، وكأنه ابن الأربعين، أو ما حولها) ولعل هذا يستدعي عندي صورة قريبة من هذا الذي ذكره الأستاذ أبو مدين عن العميد، فلقد استمعتُ في الثمانينيات الميلادية عندما كنتُ أحضّر لدرجة الدكتوراة هنا إلى رئيس الوزراء المحافظ الأسبق: هارولد مكميلان، وكان في الثمانين أو ربما تجاوزها، لقد تحدّث مرتجلاً في مجلس العموم عن المشكلات الاجتماعية التي تواجهها بلاده -آنذاك- في مجلس اللوردات لمدة تقارب ثلاثين دقيقة، فأُعجبت بتلك البلاغة التي كانت تنساب من كلمات مكميلان، وكان زملاؤه من اللوردات يرفعون أصواتهم بين الحين والآخر إعجابًا ب(مكميلان)، إعجابًا بالأسلوب، وبالمضمون الاجتماعي والفكري، وإعجابًا برجل خدم بلده في أكثر من موقع. * لقد حالت ظروف اعتلال صحتي عن حضور حفل تكريم أبي مدين في دارة صديقنا الأديب الشيخ عبدالمقصود خوجة، ولعلّ في هذه الكلمات المتواضعة ما ينوب عنّي في تقديم التحية للرجلين. * أكاديمي وكاتب