* أتذكَّرك -اليوم- مع حلول شهر شعبان، حيث يجتمعُ الشمل، ويتوافد أحباب الأمس، ورفاق الدرب، تحتفي بهم أمام حانوتك المُطل على البيت والمقام، وتنتصب بقامتك الفارعة مُرحِّبًا، ولا تدع أحدًا يسكب أقداح القهوة والشاي سواك، ممّن يصغرونك سنًّا، أو يقاربونك، فلقد كانت شهامتك ومروءتك التي طُبعتَ عليها منذ عرفتُك عن قرب قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمن، تحملك على أن تكون سيّد القوم، ولقد كنتَ سيَّدَهم، ورائدهم بحقٍّ، ويأتي قومٌ إلى مجلسك، ويغادر آخرون، وأنت لا تزالُ -على ما عهدناك- مبتسمًا، ومرحِّبًا، وكأنَّ سماحة نفسك قد أعطتك القدرة على أن تتقبَّلنا بكل صغائرنا، وكانت كثيرة، وبكل حِدَّة ألسنةِ بعضنا وكانت مؤلمة، وكان صدرك كثيرًا ما يتلقَّى السهام ويدفعها بعيدًا، ولم أرَكَ يومًا -غير مبالغٍ في القول، أو متزيّد في الرواية- نعم.. لم أركَ تنتقم لذاتك، وذلك شأوٌ بعيدٌ، لم نكن قادرين أن نجاريك فيه، ثم نغادر مجلسَك، فنتذكَّر تلك الصغائر، فنهاتفك، ونطلب الصفح منك، فإذا أنت تنفي بأخلاق الكبار بأنَّك قد سمعت ما يؤذيك، أو يكدِّر صفو خاطرك. * نعم.. يأتي -اليوم- شعبان، وتحل معه الذكريات مع والد الجميع الشهم والنبيل الشيخ عبدالله بصنوي -رحمه الله رحمة الأبرار- حيث كنا نلتفُّ حوله، ونسعى ليلاً لمرفأ الشعيبة حيث أحبابه وأصفياؤه: السيد سراج فيلالي، صالح عبدالحي، سليمان فوّال، ديبي، سليمان بيطار، إبراهيم صيرفي، والبابا رجب، يقف شامخًا يطرق الصفوف في الحلقة بعصاه، يهابه صغار السن، ويجلُّه كبارهم.. أتعلم يا صديقي أن مردَّ ذلك البهاء والجلال في وجوه القوم هو لصناعة سلوك أخذ القوم أنفسهم به، ولصفاءٍ في المشرب ارتووا منه، والنأي عن كل دنيء من قول أو سلوك. ثم يحلُّ الشهرُ الكريم -رمضان- فإذا أنت تُعدُّ طعام الإفطار -لنا- في باب أم هاني، أمام البيت والمقام، حيث تتنزَّلُ الرحماتُ، وتُمحقُ السيئاتُ، ويتقاطرُ الأحباب على تلك المائدة، ولقد كنتَ من أكثرنا جلَدًا على العبادة. ولعلِّي لا أذيع سرًّا إذا ما ذكرت أن بعضًا من أهل الفضل والإحسان يأتمنونك سرًّا على تفقُّد ذوي الحاجة من أهل الجوار، فتقضي معظم أيام الشهر سعيًا لدُورِهم لتوصل لكلّ نفس قد مضَّها الدهر، ما اعتادته من ذلك الفضل والجود. * أكتبُ عنك -اليوم- يا صديقي وقد غيَّبك الموتُ في ثرى الحجون والمعلاة، إلاَّ أنَّك حاضرٌ في نفوسٍ تعمَّقتَ في دواخلها رمزًا مضيئًا، ومن الضياء ما ينير، ومنه ما يصقل النفوس، وينأى بها عن دروب الضعف، والظلمة، والهلكة، وقد أكرمك الله بهذا الذي ذكرت وسواه. فرحمك الله يا أبا عبدالله (محمد نور مقصود)، ما بلَّلت نسماتُ الرحمة والرضوان والمغفرة أجداثًا يرقد ساكنوها في طمأنينة وسلام، وتحلِّق أرواحهم في عوالم الغيب الأزلي بأجنحة من النور الذي تعجزُ جوارحُنا عن إدراكِه، أو بلوغِه، فهذه دار البلى والفناء، وتلك دار البقاء. رحمك الله -أبا عبدالله- وأسكنك فسيح الجنات.