أفتى الإمام أبو حنيفة يومًا فقال له أحد الحاضرين: "أهذا هو الحقّ الذي لا شكَّ فيه؟"؛ فقال له الإمام: "وقد يكون الباطل الذي لا شكّ فيه". من هذا المنطلق ينبغي للعلماء خاصّة ممّن اعتلاء منصّة الافتاء السَّير على هذه الخطى، وإفهام العامّة بماهية الفتوى وما يندرج تحتها من ضوابط، وما تستبيحه من آراء واجتهادات!! وليتنا نتعلم من الإمام مالك عندما أَبَى أنْ يُفْرض كتاب (الموطأ) الشّهير على أمصار المسلمين في خلافة العباسي أبو جعفر المنصور، وقد همّ الأخير بفرضه كي يجعله الأساس الرّسمي للأحكام؛ فقال له الإمام مالك: "لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد سَبَقت إلى النّاس أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كلّ قوم بما سبق إليهم. فدع النّاس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم". إنّ هذه دعوة صريحة تُحْمد للإمام مالك، وتتساوق مع ما قال به الإمام أحمد بن حنبل: "من قِلة فَهم الرّجل تقليده الرّجال في دينه"، وتتعاضد تلك الكلمات مع هذه المقولة:" لكلّ وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال". فإذا كان هذا حال بعض الأئمة في عصور متقدّمة، فما بال البعض في هذا العصر يصرّ إصرارًا عجيباً على تبني كلّ ما يصدر عن السّابقين من أقوال على أنّه الصّحيح الذي لا مراء فيه حتّى استحال الأمر بفعل سياقات متعاضدة أو متداخلة من " لا تفعل يا أمير المؤمنين"، و"من قِلة فَهم الرّجل تقليده الرّجال في دينه"، إلى التقديس والاستبداد. فهل يصحّ وصف ذلك التّراث بالقدسيّة وهو يستصحب معه حالة ذهنيّة قابلة للاستبداد وفي العصر الحديث؟! يؤكد المفكر الصّادق المهدي أنّ الثّقافة الغالبة على مجتمعاتنا الإسلامية هي التي جعلت الاستبداد ممكنًا؛ بل مشروعًا. إنّها ثقافة طَرَدت الحريّة، وغيّبت العقل البرهاني وجعلت الاجتهاد في الدِّين مستحيلاً. وهذا يعني أنّ ثقافتنا السّائدة جعلت اجتهادات السّابقين وهي اجتهادات إنسانيّه، مقدسة بقدسيّة نصوص الوحي. وهذا معناه أنّنا جعلنا الحاضر والمستقبل حبيسًا في الماضي. فإنّ أبقينا على هذا الواقع الثقافي- كما يؤكد الصّادق المهدي- لا يرجى أن نحقّق إصلاحًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيَّا؛ لأنّ كل هذه الإصلاحات سوف تصطدم بالحائط الثقافي!! ويزيد صاحبنا الصّادق المهدي إجلاء للفكر التي يرمي إليه بالقول:" الفكرة التي قدست اجتهادات الأقدمين ترى أنّها -أي الاجتهادات- قد انطلقت من نصوص الوحي، وبموجب المنطق الصّوري قياسًا وإجماعا فَصَّلت للخلف ثوبًا عريضًا صالحًا لكلّ زمان ومكان؛ لأنّه يمثل إرادة الله لخلقه.. الإرادة التي نصّت عليها مفردات الوحي ووسعتها اجتهادات السّلف. هذه الفكرة متناقضة حتّى مع فكر أئمة الاجتهاد أنفسهم، وإذا قارنا بين تسامح وتواضع الأئمة الأربعة وبين تحزّب وتشدّد من جاء بعدهم من مقلدين لهم لرسمنا صورة حيّة للانتقال من الحركة إلى الرّكود. هؤلاء الأئمة الذين صارت اجتهاداتهم أساسا للتّمذهب والتّحزب لم يكن التعصب لفتواهم مقصودهم. لذلك فإنّ اعتبار اجتهادات الأقدمين مقدسة هي مخالفة صريحة لما دعى له أولئك الأئمة أنفسهم؛ ولكم أن تتأملوا فاتحة المقال..!!