أكبر ديمقراطية في العالم ، أرى ذلك حالما أخرج من صالة الوصول حين يتجمهر المئات في تلاحم عجيب بين أجساد البشر ، فكلما ضاقت المدن بملايين سكانها كلما انعدمت المساحة الشخصية لقاطنيها! في دلهي وحدها خمسة وعشرون مليوناً ! في الهند مئات الملايين تحت خط الفقر ، وقد قال نهرو ذات مرة : " إننا كنا نظن أنه باستطاعتنا أن نطور كل الهند الا أنه بعد 25 عاماً نستطيع أن نقول أن هناك هندين، واحدة متقدمة وأخرى متأخرة." ومع الفقر المدقع يسكن الناس في الشارع بالمعنى الحرفي ، شاهدتهم ينامون على الأرصفة و تحت أي شيء حكومي له سقف، وعندما هبطنا في مدرج مطار بومباي شاهدنا الناس تسكن بين المدرجين ! معنى ما سلف أنه لو تشاجر أحدهم مع آخر و قال له : "يبدو أنك ابن شوارع" فلن يكون المعنى بعيداً ! الشارع في الهند مدينة ، فبعدما يستيقظ المرء من أشعة الشمس يستطيع الالتفات الى الحلاق الذي خلفه ليحلق له ذقنه ! و الأخير أيضاً في العراء مع بائع الطعام الشعبي والخردوات ... الى آخره من الخدمات. الا أن هذه الشوارع أخرجت قادة الشركات الضخمة في العالم و بريطانيا التي يوجد فيها ثريان اثنان من الهند بين كل عشرة. التعليم هنا الزامي منذ أن صوت البرلمان الهندي على ذلك لمن هم بين السادسة والرابعة عشرة وتوجد ضريبة على السلع تجير الى التعليم فقط. وإذا كنت تشكو من شدة التنافس وقلة الفرص في بلادك فيكفي أن تعرف أن عدد الخريجين الجامعيين في الهند سنوياً خمسة ملايين ! منهم مايفوق المليون مهندس و600 ألف فني حاسبات وتقنية و هذا ما يفوق ما تخرجة المملكة المتحدة بمائة ضعف ! استعمرت بريطانيا العظمى الهند منذ القرن السابع عشر حتى أخرجها رجل نحيل يلبس خروقاً بيضاء و يحمل قلباً أشد بياضاً. غابت بريطانيا لكن الهند تشبثت بما تعلمته من بيروقراطية وضعت أصلاً كنظام محكم لتسيير مرافق الدولة بدقة ، وكمية الأوراق التي توقع لعمل كل شيء تقريباً مهولة ، من استخراج التأشيرة الى صرف العملة ، حتى السلع في متاجر المستهلك مختومة بسعر محدد وبجواره ختم الحكومة! لا مكان هنا للتلاعب ، فرغم ما قد ينعكس عليك كزائر كانطباع بأن البلاد فوضى بسبب قيادة السيارات (وهي قصة لوحدها) الا أن النظام مفعل بشكل كبير ، و قد تجد سائق الدراجة النارية حافي القدمين ، الا أنه يلبس الخوذة! ذات مرة أحدث أحد الواقفين في طابور في مطار 'لاكناو' بلبلة انقلبت الى عراك مع من يليه ، فما كان بالشرطيين الا أن هووا عليهما بالهراوات الخشبية الى أن وقعا في منظر يرعب المراقبين! قيادة السيارات في الهند مغامرة محفوفة بالمخاطر ، وهنا أيضاً تنعدم المسافات بين السيارات ، وكما يصفون لاعب كرة القدم 'ميسي' بأنه يتحرك في بضع سنتيميترات ، فإن السيارات تتحرك أيضاً بقرب شديد من بعضها. حالما أجلس في المقعد الخلفي فإنني أؤثر أن أنظر في أي شيء يشتت انتباهي عن مغامرة سائق السيارة ،خاصة بعدما نظرت ذات مرة الى الأمام فوجدت شاحنة تقترب بشكل مريب! ورغم ذلك .. لا حوادث تذكر. للحديث بقية،