سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
غربان الطائفية لا تطير في الأحساء ! بقدر حزننا بفقد إخوتنا من المواطنين ورجال الأمن، إلاّ أن عزاءنا أن مثل هذه الأحداث تزيد نسيجنا الاجتماعي قوة، وتوحِّد الصفوف في وجه أي عابث يستهدف أمننا الوطني
* لأول وهلة، يبدو اختيار الأحساء من قبل الإرهابيين لتنفيذ جريمتهم الأخيرة اختيارًا ذكيًّا، فالأحساء من أكثر المناطق السعودية التي يوجد فيها قطبا الوطن (السنّي/ الشيعي) بكثافة، لذا أرادوا للفتنة أن تبدأ من هناك! والحق أنه كان اختيارًا غبيًّا وساذجًا بدرجة كبيرة، ليس لأن المجتمع السعودي برمته بات على درجة كبيرة من الوعي بمثل هذه الفخاخ الطائفية فحسب، بل ولأن من يعرف طبيعة (طينة) تلك الواحة (الحساوية) المعطاءة، يُدرك أنها تمثل الأرض الأكثر خصوبة لاستنبات التسامح وزراعة التعايش، وأنها كانت ومازالت وستظل -بإذن الله- بمكوّنها السكاني المختلف مذهبيًّا، والمتجانس وطنيًّا وديموغرافيًّا وإنسانيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، أنموذجًا وطنيًّا مشرقًا، وواحة حقيقية يستظل بها الجميع من هجير نيران الطائفية وسموم رياحها القاسية. * لقد راهن التطرف على الجواد الخطأ، فالأحساء التي عُرفت منذ القدم بالسلم الأهلي، والتعايش المذهبي الذي وصل حد التصاهر بين كل أطياف مجتمعها الطيب والواعي، لم يكن لها أن تنزلق إلى فتنة عمياء بتلك السذاجة والسهولة، لذا لم يكن تعاطي المواطنين في حادثة (الدالوة) وإدانتهم الجماعية لهذه الجريمة التي أراد غربان التطرف والكراهية أن يضربوا بها السلم الاجتماعي، وتمزيق اللُّحمة الوطنية سوى تجديد للعهد وإعادة تقديم للوجه (الحساوي) الذي سجل له التاريخ الكثير من شواهد التسامح والإنسانية. * روى لي أحد كبار السن، أن والده (السّني) أصيب في بدايات العهد السعودي بالجدري، المرض المرعب والقاتل آنذاك.. ولمّا كان من عادة أهل ذلك الزمان الذي يندر فيه الطب والعلاج إخراج (المجدور) خارج حدود قراهم وتركه في العراء لمواجهة مصيره خوفًا من العدوى، فقد فعلوا الشيء نفسه مع الرجل، حين أخرجوه مع قليل من الطعام والماء ليواجه مصيره الذي لم يكن يخرج عن احتمالات ثلاثة، فإمّا الموت بالمرض اللعين، أو الموت بين أنياب السباع، أو أن تفيض روحه جوعًا وعطشًا.. لكن الله قيّض لذلك الرجل (المفجوع) بطاعون الجدري وطاعون تخلي الأقارب رجلاً (شيعيًّا) من سكان قرية مجاورة، كان سببًا في نجاته، حين حمله على ظهره، وأسكنه فوق سطح بيته، وتعهده بالطبابة والرعاية اليومية لأكثر من أربعين ليلة، لم يخشَ فيها على نفسه وعلى أهل بيته، حتى منّ الله عليه بالشفاء، وعاد إلى أهله وقريته سليمًا معافى. * لم يكن غريبًا على مجتمع يملك كل هذا الإرث الإنساني أن يدرك أن تمزق الأوطان يبدأ بتمزق وحدتها الوطنية، وأن يتجاوز بمسؤولية كل فخاخ التطرف والإرهاب.. وليس غريبًا أيضًا على كيان تعايش لقرون مع كل هذا التنوع الفكري والمذهبي أن يقطع الطريق على من يُحاولون جرّه بدناءة لدوامة الاقتتال الطائفي، ليجعلوا من هذا الوطن ساحة للحروب وسفك الدماء. * بقدر حزننا بفقد إخوتنا من المواطنين ورجال الأمن، إلاّ أن عزاءنا أن مثل هذه الأحداث تزيد نسيجنا الاجتماعي قوة، وتوحِّد الصفوف في وجه أي عابث يستهدف أمننا الوطني. أحر وأصدق التعازي لأهالي كل الضحايا، وأصدق الأمنيات والدعوات للمصابين بالشفاء.. وكل الاحترام والتقدير لتلك الواحة السعودية المعطاءة التي أثبتت بشكل عملي أنه لا مكان فيها لطيور الظلام وغربان التطرّف والإرهاب. [email protected]