كنتُ أتصوّر أن "السبع دوخات" التي يعاني منها مراجعو بعض الدوائر ك(المحاكم، والبلديات، والتجارة، وبعض دوائر الأمن)، قاصرة على بلدان العالم الثالث فقط، لكن تصوّري ذاك تبدد بعد أن وجدت أن هناك من يتقاسم معنا من سكان المعمورة شرب هذا الكأس، بل وبشكل أفظع، فالبيروقراطية تعشعش في سجلات الدواوين الحكومية ببلدان العالم المتقدم أيضًا، ولنأخذ بريطانيا مثلاً للدلالة، فقد أصدرت عفوًا عن عالم الرياضيات البريطاني الشهير الدكتور "الن تورنغ" بعفو ملكي بعد 60 عامًا من وفاته! تم سجنه في الأربعينيات، وتوفي في عام 1954، وتم العفو عنه بتاريخ 24-11-2013، و"تورنغ" هو رائد علوم الحاسب الآلي الذي استطاع أن يفك رسائل الأسطول البحري الألماني المشفرة، وكان أن تقدم 34 ألف شخص بطلب التماس عفو له، وظل طلب العفو عنه يدور في أروقة المحاكم البريطانية لمدة 70 عامًا، حتى صدر بعد وفاته ب60 عامًا. كما أن الفرنسيين أيضًا لم يكونوا بعيدين عن هذه الإجراءات البيروقراطية المقيتة، فوزارة التربية الوطنية في فرنسا، أعادت معلمًا يدعى "جان سوك" للخدمة بعد 70 عامًا من فصله، حيث تم الفصل عام 1934 بحجة أنه لم يلتزم بالخدمة الإلزامية للمعلمين أثناء الحرب العالمية الثانية، وما لبث أن تلقى خطابًا يحثه على العودة إلى مواصلة التدريس، وقد بلغ الرابعة والتسعين من العمر! دعونا من بيروقراطية الدول بكل عوالمها، الأول، والثاني، والثالث، ونتحوّل إلى (الأممالمتحدة) التي يفترض أن تكون نسبة البيروقراطية فيها منعدمة، إذ تحمل أرففها قضايا العالم بأكمله، بعضها لا يحتمل التأجيل، وآخر لا يستحق التسويف، إذ إنها وقعت في المحظور، ولم تستطع أن تتجاوز الروتين البغيض، فعلى الرغم من مرور أكثر من 70 عامًا على نهاية الحرب الإسبانية التي نشبت بين الجمهوريين، وقوات الجنرال فرانكو، وانتهت بانتصار (فرانكو)، فقد طلبت من الحكومة الإسبانية مؤخرًا أن توضّح هوية 114000 شخص فقدوا في الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت في المدة من (1936 - 1939)؛ لكي تتمكّن من إبلاغ ذويهم الذين يطالبون بجثث قتلاهم، وإذا ما قدّر للإسبان معرفة مكان الجثث، كيف تصل الأممالمتحدة إلى ذوي المتوفين بعد مضي 70 عامًا؟! روائع نصادفها في حياتنا، كتلك التي حصلت لمواطن بعد أن وجد نفسه "متوفى" -على الورق- وحيًّا على الطبيعة، ودخل في معركة "إثبات حياة"، نتمنى أن ينتصر فيها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى. [email protected]