يشكل السوق بالنسبة لأهل المدينةالمنورة مدرسة تربوية عظيمة يتعلمون فيها كثيرًا من الدروس العملية، ويمكن اعتبار السوق مدرسة عالمية لأن أهله يتعاملون مع أنواع ولغات الحجاج والزوار المختلفة، فكم من لغة كان ابن المدينة يتعلمها ويتعامل بها، وقد لا يكون يعرف أحرف الهجاء العربية أصلا لقلة المدارس وندرتها، وكم من أخلاقيات وحسن تعامل كان يمارسه ويتشربه ممن حوله من الكبار، ومن تلك الصور المبهرة أن صاحب الدكان إن جاءه زبون يقول له: اشتر من جاري فقد بعت اليوم! ويروي الدكتور عبدالكريم المطبقاني على لسان الشيخ عطية محمد سالم -يرحمه الله- عن تجار المدينة وأدبهم وتعاملهم بالثقة يقول -رحمه الله-: إن أهل بيته أرادوا شراء ذهب من إحدى المحلات المعروفة فنقص عليهم المبلغ فما كان من التاجر بعد أن رأى حيرة المرأة إلا أن قال لها: "خذي ما اخترت وبعدين جيبوا الباقي بس بيت مين انتو؟"، فقالت له: "احنا بيت الشيخ عطية"، وأخذت الذهب ورجعت إلى بيتها والتاجر لا يعلم أهي صادقة أم لا؟. لكنها الثقة والطيبة، يقول الشيخ عطية أخبرتني زوجتي بذلك وذهبت بعد العصر للمحل ودفعت له المبلغ المتبقي..! ويروي الدكتور عبدالكريم مطبقاني أيضًا كذلك أن والده العم صلاح -رحمه الله- جاء من الأردن عام 1380ه للحج ونزل عند شقيقه عصام في حوش منصور (بيت وقف جدنا) وكان لا يعرف من المدينةالمنورة أي شيء إلا ما كان يحدثه عنها والده وأهل المدينةالمنورة الذين كانوا معهم، يقول الدكتور عبدالكريم: "ذهب الوالد للحرم ثم دخل سويقة ليشتري أقمشة كهدايا، وبعد أن قص التاجر الأقمشة أخذ الوالد يبحث في جيبه فلم يجد شيئًا، فاعتذر للتاجر وطلب منه أن يبقي القطع عنده حتى يأتي بالمبلغ، فما كان من صاحب المحل إلا أن قال: خذ يا حجي القطع وبعدين جيب الفلوس! قال له الوالد أخاف أضيع المكان، فرد عليه التاجر خذ عنواني واسأل، قال له الوالد: ألا تخاف أني ما أرجع؟ قال يا حجي إنت جاي تحج أنت مو جاي تسرق؛ فرجع الوالد يحمل الهدايا فتعجبت خالته لأنها -رحمها الله- حين غيرت للوالد الثوب نسيت وضع المحفظة ثم ذهب مع عمي عصام ودفع المبلغ!. ويقول الدكتور خالد عبدالله الرحيلي عن جده لأمه -يرحمه الله- الذي كان لديه محل تجاري في السوق وكيف كان يتعامل مع زوار المدينةالمنورة، فيبيعهم بأرخص الأسعار ويتسامح مع غير القادر، ولما سأله الأخ خالد عن ذلك يقول له: إنهم زوار النبي عليه الصلاة والسلام، كما أن هذا الجد عندما تأتيه البضاعة يتكاثر عليه الفقراء قبل الزبائن فيحصلون على نصيبهم دون أن يدفعوا هللة واحدة!. ويروي الأخ الفاضل وليد أحمد رفيق عن نفسه: كنت في حوالى السن 12 ذهبت إلى جدي عبدالكريم محمد رفيق -يرحمه الله-، وكان صاحب مكتبة أمام باب الرحمة مباشرة وذلك لأخذ منه بعض الأدوات المدرسية فكان جدي لا يعطيني إلا بعد أن يطرح عدة أسئلة وتمحيص، وكان ذلك بعد صلاة العصر وعند وصولي للمكتبة طلب مني جدي أن أنتظره ليقضي أمرًا له بالجوار، وفرد "شاله" بطريقة عشوائية على مكان جلوسه، وبينما أنا أقف بطرف الدكان جاء شاب وسألني عن "الشيبه" صاحب المكتبة، فقلت له إنه سيحضر بعد قليل، فإذا به يرفع المرتبة أو الوسادة التي كان يجلس عليها جدي ويأخذ الأوراق النقدية من تحت الوسادة ويركض هاربًا، فكنت أنظر في حالة من الذهول والارتباك والفزع، ولما حضر جدي أخبرته بما حدث، لم يتكلم وأعطاني ما أريد من الأدوات المدرسية ومبلغ لشراء آيسكريم (تماتيك) من التركي في شارع العينية، ولما وصلت للمنزل وكان في الزاهدية أخبرت إخواني الكبار فحضروا معي للبحث عن ذلك الشاب في الساحة وفي شارع العينية ولم نعثر عليه، فعدنا للمنزل فأخبرنا الوالد -يرحمه الله-، إلا أن الوالد تعامل مع الموضوع ببساطه وعدم اهتمام، فعلمت بعد أن بلغت من العمر ما بلغت بأن جدي يقوم بهذا العمل عن عمد وقصد ليأخذ صاحب الحاجة ما تحت المرتبة التي كان يجلس عليها جدي رحمه الله تعالى! ويضيف الأخ وليد حالة أخرى ما تزال حتى الآن بجوار مسجد قباء حيث يوجد مخبز تدخله وتأخذ ما تريد وتضع قيمة ما أخدته على الطاولة، واذا لم يكن لديك قيمة الخبز تدفعها فيما بعد أو تذهب وتدعو لصاحب المخبز الشيخ أحمد عبدالحميد عباس!. [email protected]