لم تكن صورة المدرسة واضحة المعالم لديّ وأنا طفل لم أتجاوز السابعة، فقد كان عدد المدارس الحكومية آنذاك محدودًا، ولم تتوفر لدينا وسائل إعلام كافية لتعريفنا بأهمية التعليم والمدارس، كما أن ثقافة المجتمع عامة لم تكن واسعة بالقدر الكافي ليعرف الجميع تفاصيل الحياة التعليمية، وربما كانت الصورة الذهنية الراسخة في أذهان الكبار قبل الصغار عن المدرسة غير مشرقة، وهذا ما حصل معي تمامًا، فما إن بدأ العام الدراسي وجاء خالي عبدالفتاح مظهر -يرحمه الله- ليصطحبني معه إلى المدرسة حتى شعرت وكأني ذاهب إلى عالم غامض مجهول مفعم بالخوف والرعب، ربما لأن أحاديث من حولي عن المدرسة قد يكون ولّد هذه الأحاسيس فتكونت لدي عقدة منها قبل دخول أبوابها، وكانت صباحات الأيام الأولى في حياتي التعليمية متعبة لي نفسيًا ولخالي -يرحمه الله- كذلك، فكان يحاول إقناعي بالذهاب معه لكن دون جدوى، مما اضطره إلى جرّي جرًا وأنا أشعر بالرعب فعلًا وكأني خروف يأخذه الجزار ليذبحه، وللأسف كانت المدرسة التي درست فيها السنة الأولى تبعد عن بيتنا مسافة كبيرة فنحن نسكن في المسفلة والمدرسة في أجياد، وكان علينا حث الخطى إليها قدر الإمكان لنصل إليها في الوقت المناسب، ناهيك عن أنها مبنى مستأجر (لم يكن هناك يومها مبان للمدارس الحكومية غالبًا) وهي عبارة عن عمارة سكنية ضخمة متعددة الأدوار، معتمة المدخل والفصول، لا تتوفر فيها التهوية والإضاءة الطبيعية الكافية، وتقف بوابتها الضخمة كالبعبع (مجرد تشبيه) فاغرًا فاه ليبلعنا نحن الصغار، إضافة إلى روائح بقايا القطط المبعثرة على أطراف الفصل الذي لم تكن به طاولات وكراسي لطلابه، بل كان الحصير هو مجلسنا والرمل من تحته، أي أنه لا يوجد بلاط، والسبورة الخشبية السوداء تقف في وجهنا تشهد لنا بمقدار ما وجدناه من تعامل غير تربوي من قبل الإدارة وبعض المعلمين والمستخدمين (سامحهم الله وغفر لهم)!. في الأيام الأولى من حياتي التعليمية مر بي موقف لن أنساه ولذلك أجبرني على ذكره هنا، ففي إحدى الحصص غاب المدرس أو ربما تأخر كثيرًا عن الحصة، فتصاعدت أصواتنا وجلبتنا (ونحن مجرد أطفال) مما دفع المدير والوكيل والمراقب وبعض المعلمين إلى الوقوف على باب الفصل لتهديدنا وتخويفنا جزاء ما حدث منا من فوضى، ولا زلت أذكر كلمات المدير للمراقب بأن يهيئ لنا غرفة الفئران والعقارب ويضع على أعيننا النورة ويحبسنا في تلك الغرفة المخيفة، فتصاعد صراخنا وتكاثر بكاؤنا خوفًا مما ينتظرنا من عذاب مؤلم، بالطبع كان ذلك كله مجرد تهديد وتخويف، لكنا صدقناهم، وهذه إحدى صور المآسي التي عاشها التعليم إبان تلك الفترة فهي ما بين تخويف وتهديد ووعيد وعقاب أليم، فالفلكة والعصا ورفع القدمين أو مد اليدين هي ديدن معظم المعلمين والمديرين تلك الأيام، ولذلك فإني أعجب ممن يتباكى على التعليم أيام زمان عندما كان الأب يقول للمعلم: لكم اللحم ولنا العظم؛ وكأنهم يعيشون في مجزرة أو سوق غنم، فهل هذه اللغة تمثل نجاحًا متميزًا للتربية والتعليم إبان تلك الحقبة من الزمن ؟! عندما أسرد هذه الصور فهي ليست مجرد ذكريات أو للتسلية وإنما لأن معظم أبناء الجيل المعاصر يدرسون في مدارس حكومية تتوفر فيها عناصر كثيرة لم تتوفر لنا في مراحل عدة من مدارسنا وفي معظم المراحل الدراسية التي مررنا بها، ولذلك أرجو منهم أن يشكروا نعم الله عليهم لما هم فيه من توفر الكثير من الإمكانات والعناصر التي تساعدهم على تلقي العلم بأفضل مما كنا نعيشه، وللحديث تتمة بإذن الله. [email protected] [email protected]