ظلت الإمبراطورية الروسية عبر قرون طويلة حامية حمى المسيحية الأرثوذكسية الشرقية وملوك الأرثوذكس في ذلك ، و ظلت روسيا في حروب مستمرة مع البلاد الإسلامية المتاخمة لها لفرض السيطرة والهيمنة الأرثوذكسية على تلك الممالك الإسلامية ولا تزال حروبها ضد البلاد الإسلامية المجاورة كالشيشان وغيرها من الجمهوريات الإسلامية حروباً متجددة. وعلى الرغم من أن روسيا قد مرت بمرحلة شيوعية إلحادية مظلمة استغرقت غالبية القرن الماضي فيما عرف بالإتحاد السوفيتي الذي انهار عام 1989 م بعد صراع دامٍ ومرير مع الشعب الأفغاني المسلم مخلفاً فراغاً سياسياً عالمياً كبيراً ، وتعاقبت على روسيا قيادات مختلفة خلال التسعينيات من القرن العشرين بعد ذلك الانهيار السوفيتي المدوي كانت في غالبيتها ذات توجهات غربية ورأسمالية غيرت من الصورة الذهنية من روسيا البلشفية إلى روسيا شبه الرأسمالية ، إلى أن جاء دور الرئيس الروسي الحالي فلادامير بوتين الذي يختلف عن سابقيه بقناعاته الدينية الأرثوذكسية ومحاولاته استعادة مكانة روسيا العالمية من جديد مما أشعل فتيل حرب باردة جديدة مع الغرب أراها في طريقها للتطور نحو حرب ساخنة عالمية و نووية. كتبت الواشنطن بوست الأمريكية تعليقاً على خطاب بوتين الأخير الذي ألقاه أمام مجلس الدوما الروسي عقب توقيعه على ضم شبه جزيرة القرم التي كانت يوماً ما ذات غالبية مسلمة ( تتار ) إلى روسيا ، إذ ركز بوتين في الخطاب المشار إليه على بعد ديني أو دور ديني روسي أعمق بكثير مما قد يبدو للسواد الأعظم من شعوب العالم الغربي ، لقد كان الخطاب بمثابة تبرؤ روسي صريح من الإرث الاشتراكي السوفيتي الملحد لصالح مشروع ديني روسي أقدم بكثير يسمى الحكم المسيحي Messiansim وهو لفظ تاريخي المقصود الحكم بدين السيد المسيح ( الدولة الدينية ) وفي حالة روسيا يعني تحويل روسيا إلى إمبراطورية الأرثوذكسية و إلى القلب العالمي النابض ل "كمون ولث" أرثوذكسي عالمي لا يتأثر بدورة تغير شخص الرئيس الروسي حسب الممارسة الديمقراطية الحديثة ، وبعبارات أوضح سعي روسيا لتحقيق طموحات أمجاد إمبراطورية دينية أرثوذكسية عالمية أخذت أولى خطوات تشكيلها باحتلال وضم شبه جزيرة القرم إلى تلك الإمبراطورية واعتبار بوتين عند كثير من الروس بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا "مسيحاً مخلصاً" ، ثم تهدف هذه العقيدة إلى توسيع دائرة نفوذها لتبلغ صربيا و حتى اليونان جنوباً و زيادة نفوذها في أوربا الشرقية بشكل خاص تحت راية الأرثوذكسية. يقول المؤرخ الروسي مارك باستوكوف على سبيل الثناء ( إن الحكم المسيحي جزء من الضمير الروسي على مر التاريخ ، وإن بوتين قد أيقظ ذلك الوحش الروسي ). إن احتلال وضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا وتهديدها باحتلال أوكرانيا المدعومة من الغرب جاء دون أن يستطيع الغرب أن يحرك ساكناً سوى اللهم تهديدات الرئيس الأمريكي أوباما بالحصار الاقتصادي لروسيا رغم أن نتائج ذلك ستؤذي الغرب بنسبة أكبر من إيلام روسيا ذاتها ورغم بداية انفراط عقد التحالف الأوربي بهذا الشأن . إن العالم يتشكل من جديد حول الأيدلوجيات في الشرق و في الغرب وسيفرض ذلك التغير الجوهري على منطقة البلاد العربية الإسلامية التي ترى بعضها في العلمانية المخرج مما هي فيه من دوامات سياسية مخيفة .