تلقيت – بعد كتابة مقالي هذا – خطابا من صاحب السمو الملكي وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل، شكرًا وتعقيبًا على مقالي السابق (تحدّيات التغيير) مشيرًا إلى اهتمام سموه بما يطرح من أفكار ومقترحات تخدم التربية والتعليم وقد سرّني الخطاب، الذي يؤكد متابعة المسؤول.. وقد جاء مقالي اليوم في ذات الشأن.. ليتّسع لنا صدر سموه. هل مازال النشء يقوم للمعلم ويوّفه التبجيلا ظنًا من الشاعر بأن المعلم كاد يكون رسولا؟! وإذا كانت تلك حال النشء في الزمن الماضي الجميل حين كان ربّ الأسرة - كما يروي أباؤنا - يصطحب ابنه المشتكي من ضرب المعلم فيقول لإدارة المدرسة لكم اللحم ولنا العظم.. ورغم المبالغة في اللفظ إلا أن معناه يؤكد ثقة البيت في المدرسة ومعلميّها الذين آلوا على أنفسهم تنشئة الطالب تربية وتعليما.. خلقًا وسلوكًا. فأين الحال اليوم منها في الماضي؟! إننا لم نختلف مع التربويين الجدد في أن الضرب ليس علاجًا ولا موّجهًا في جيل اليوم المختلف كثيرًا عن صِنوه القديم.. ولكل فلسفة نحترمها ونقدّرها لكن يبدو أننا قد أسرفنا كثيرًا حين وقفنا بشدّة في وجه العقاب فغابت أي وسيلة تعيد للمعلم والمدرسة الهيبة والاحترام.. وساءني ما قرأته وشاهدته عن توثيق طلاب لتهجّمهم على المعلمين ب (اليوتيوب) وهو أمر قد طغى واستشرى في البيئة التعليمية، التي كانت لها حرمتها وحصانتها فكم أتذكّر حين كنت طالبًا في مدارس الثغر النموذجية في عهد المربي الأستاذ/ عبدالرحمن التونسي رحمه الله ورغم أنها كانت من المدارس الراقية في البلد – إلاّ أن بعض الطلاب كانوا يمارسون سلوكًا هو بالتأكيد ليس كما نشهده اليوم وكان هناك مراقب يتصدّى لهم يحمل عصا صغيرة لا يضرب بها لكنها تصنع حوله هيبة وله صوت جهوري يرهب الطلاب.. وقد ردع ذلك أولئك الطلبة وغيّر سلوكهم. وذات يوم كنت في مدرسة ابني الخاصة في دعوة لنشاط جميل أُطلق عليه (التاجر الصغير) ورأيت كيف تنمي الإدارة روح الاعتماد على النفس عند النشء منذ الصغر لكنني رأيت في ذات الوقت سلوك بعض الطلاب في اللعب والتعامل مع المدرسين وترسّخ في قناعتي أن التربية مسؤولية جسيمة تأتي قبل التعليم، وتحتاج صبرًا من المعلمين وإدارات المدارس وتفهّمًا من أولياء الأمور، فالتعامل مع الصغار أو المراهقين ليس يسيرًا ويتطلب برامج تدريبية متطورة في التربية والسلوك وبناء الشخصية وجذب الانتباه وزراعة الحب والثقة وهما عماد التغيير الإيجابي. وإذا كنا لا نتفق مع العنف غير المبرر الذي مارسه بعض المعلمين ضد الطلبة فإننا لا بد أن نكون موضوعيين في الأحكام فهم لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة أساءت لرسالة المعلم المقدسّة وأساءت إلى الدور المنوط به.. لأن الانتقاد الشرس للمعلم والعقوبة نحى بالأمر منحى خطيرًا أفقد المعلم هيبته والمدرسة وظيفتها.. وصار الطلاب يسخرون من المربيّن الفضلاء، الذين يؤدون رسالة والله إنها لعظيمة وتستحق التقدير والاحترام والمرء يستطيع قياس الأمر على أبنائه ليرى كيف يتصرف حين يعاند الواحد منهم أو يتمادى في ضحكة أو لا يستجيب للشرح والتوجيه وهو ابنه فكيف بالمعلم أو المربي، الذي يتحّمل أمانة أبناء الناس وعليه أن يوطّن نفسه على الهدوء والصبر حتى لا يفقد أعصابه أمام جيل مختلف لا يحمل نفس التقدير والمثل العليا، التي كان يحملها من سبقه من جيل تجاه المعلم أو الكبير.. وقد نلتمس له العذر- لأنه انفتح على عالم مختلف جعلت التقنية الدنيا كلها بين يديه وألِفَ طباعًا مكتسبة من الثقافة المجتمعية والتقنية لم تكن موجودة، وقد يعتبرها ضمن شرائح السلوك الطبيعي مقارنة بمن حوله في العالم. (من أمن العقوبة أساء الأدب) مقولة تستحق بروازا يعلّق أمام الخارجين عن اللياقة من الطلاب والطالبات.. وأذكر رأيا للدكتور Benjamin spock كان يصحح فيه بعض المفاهيم، التي تبنّاها في الماضي نحو التربية والعقاب كانت بمثابة تحوّل كبير في آرائه فقد أكد أنه من خلال ما رآه في أحفاده من سلوك يجعله يعيد النظر إلى أهمية المحاسبة ولكن بالطبع مع اختلاف المعايير، فالأمر نسبي في تقدير العقاب بالنظر للبيئة والثقافة المجتمعية، لكن الشاهد في الأمر أن مبدأ المحاسبة مهم في انضباط النشء، الذي صار يتمادى في الاستهتار ولا يأبه للياقة. ومما استوقفني في تحقيق هذه الجريدة بالأسبوع الماضي هو شكوى بعض التربويين من كثرة تعامل الطلاب مع هواتفهم الذكية في المدرسة، التي باتت تسرق انتباههم من الدرس والتحصيل العلمي ناهيك عما تحتويه من مواد مسيئة يمكن تبادلها بينهم وهي ظاهرة قد تفشت في المدارس ولابد من التصدّي لها والمعلم بشر ربما يصيب ويخطئ ووضعه تحت مجهر الرقابة ومحاسبته يصيبه بالكثير من الإحباط والتردد في تطبيق قواعد التربية والتعليم، فنحن اليوم ندين لأساتيذ استطاعوا تعليمنا بعض القواعد ومبادئ الرياضيات وجدول الضرب رغم أنهم استخدموا فيها شيئًا من العقاب المفيد والمقبول الذي كان أداة إيجابية في الاستجابة وسرعة التعلّيم.. وفي المقابل نحن في حاجة إلى معلم زمان، الذي كان مثقفًا ومحبًا للعلم والطلاب يجتهد في الاهتمام بهم، ولذلك نطالب بأهمية تأهيل المعلمين بدورات تدريبية في السلوك وبناء الثقة وجذب الانتباه والذكاء الاجتماعي وتنمية المهارات والإبداع حتى نغّير الصورة الذهنية للعملية التعليمية والتربوية في مدارس اليوم ونعيد هيبة المدرسة والمعلم. [email protected]