منحتنا أشعة الشمس الآتية عبر الزجاج الخارجي للمقهى حيوية، لذلك نختار أنا ورفيق هذه المائدة بالذات في الصباحات الشتوية، حتى أطلق العاملون بالمقهى عليها مجلس الشيوخ، الشيوخ هنا إشارة عمرية لا مقامية، ولمّا عرف رفيق ذلك قال لهم مداعبًا: ينقصكم مجلس آخر للنواب فيكتمل لكم كونجرس.. رد أحدهم: يا ريت يا حاج رفيق بالمرة تبني لنا بيت أبيض ولا الحوجة للولايات المتحدة. بدا رفيق في هذا الصباح مسترخيًا عازفًا عن الكلام، أو هكذا ظننت إلى أن قال لي: فكرة أن الموت قد يكون هو الآخر غرقًا في اللاشعور مثله كالنوم تستحق التأمل.. قلت: دعك من سيرته، لا يستحب لمن هم في سننا الحديث عن الموت، ربما ولا لمن هم أصغر، يحسن للمرء أن يحل ألغاز الحياة أولًا قبل معالجة ما وراءها، فدعك من شطحاتك.. لم يستجب فما لبث أن فجّر شطحة على شكل سؤال: ألا يصح عد الجنون كذلك غرقًا في اللاشعور!؟.. أسكتتني المباغتة، واتّصل الصمت وأنا أتأمل سؤاله بحثًا عن إجابة مؤقتة، ثم قلت: جميعها علاقات بين الأنا أو الوعي واللاشعور، لكن علاقة الأنا به أثناء النوم غيرها في حالة الجنون، في النوم تعود الأنا إلى أحضان منبتها الأصلي لترتاح من التوترات المصاحبة لأداء وظائفها حين اليقظة، في الجنون يجتاح اللاشعور الأنا أثناء يقظتها ويُشوّه أداءها لعملها، مع ذلك هناك وجه شبه دعا بعض الباحثين إلى القول بأن الحلم جنون قصير أثناء النوم، والجنون حلم طويل أثناء اليقظة.. عاد الصمت يسود بيننا بينما أعد لسؤال أرد به على مفاجآته، ثم قلت حين وجدته: ماذا في رأيك ما جعل اللاشعور لا شعورا؟.. رد على سؤالي بنظرة تنتظر الإجابة من السائل، فأجبت: لدينا فقط فروض، في الغالب هو ما صنع الفواصل بينه والأنا ليبقى لا شعورًا حتى يحمي الأنا من الدمار، هذا في البداية، في مرحلة تالية يصبح احدى وظائف الأنا تمتين تلك السياجات التي أقامها اللاشعور حماية لنفسها منه، فلولا هذه الفواصل لاستحال التعاطي مع شؤون الدنيا، إما هذا وإما أن تتلاشى في محيط اللاشعور. قف أمام البحر اللامحدود وتأمّله ينتابك إحساس جامح بالتلاشي فيه، هذا هو حال الأنا إن هي واجهت اللاشعور وجهًا لوجه، لذلك هي لا تفعل، وإن فعلت غرقت وذابت، فتصبح سياجاتها الفاصلة عنه وسيلتها للبقاء وتزداد تمسّكًا بها، تفعل ذلك لأنها هشة بحاجة إلى درقة.. قال: وفي الجنون تنهار السياجات.. قلت: وتنهار الأنا وتكف عن أداء وظائفها بالطريقة المألوفة، والجنون درجات كما نعرف. في النوم يخاطب اللاشعور الأنا بالأحلام، في اليقظة خطابه همس بلا صوت!، في الجنون يتحوّل صراخًا يصم آذان الوعي.. قال: مسكينة هذه الأنا، ضغوط لاشعورية من الداخل وضغوط من عالمها الخارجي، وهي هشة كما قلت. يا لها من معجزة أن تكون نسبة المجانين على هذه الضآلة!.. ابتسمتُ مُعلِّقا: تتوقف تلك النسبة على تعريفك للجنون، إن عرّفته بطريقة مختلفة قد يهولك كبرها. وأصحح لك أن الأنا ليست مسكينة كما تتصور، وإن استحقت الشفقة على جسامة مهامها، في الحقيقة تتمتع الأنا بجبروت وإحساس مُزيَّف بالقوة والعظمة والنهم لتأكيد نفسها، وتلك خصائص تغريها بتدمير علاقاتها مع داخلها اللاشعوري وعالمها الخارجي. أخبرني بعدد من يستعملون آذانهم أكثر من أفواههم بين من تعرف، أخبرني بعدد من يُحاورون ليفهموا لا ليتسلطوا، أخبرني بعدد الباحثين عن الحقيقة، من أين لمن هم ليسوا بكذلك قدرة الإنصات إلى همس بلا صوت!!