سألني مرة أحد الشباب، ممّن تعلّموا التمرّد على العلوم والقفز على أسوارها، ولم يَلِجُوها من أبوابها، قائلاً: تذكرون أن الأحاديث في الصحيحين (صحيحي البخاري ومسلم) صحيحة، وفيها أحاديث يدل العلمُ الحديث على بطلانها! فقلت له: أولاً: أحاديث الصحيحين صحيحة؛ إلاّ قدرًا يسيرًا وقع فيه الاختلاف. وثانيًا: أذكر لي مثالاً على ذلك. فقال: حديث الصحيحين: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ). والحفريات والآثار القديمة للفراعنة وغيرهم تدل على أنهم مثلنا، وليس بين موسى وآدم إلاّ فترة لعلها لا تتجاوز بضعة آلاف من السنين، كما يظهر من كتب التاريخ. وأكمل الشاب قائلاً: كما أن تطور البشرية في جانب الغذاء والصحة أدعى لزيادة الطول، لا لنقصه. ولذلك أثبتت الدراسات أن الجيل المعاصر أصبح أكثر طولاً إجمالاً من الجيل الماضي القريب، بسبب هذا التطور. فقلت له: أولاً: صحح معلوماتك الكونية، فعمر الإنسان الحديث -كما يقولون- على وجه الأرض، حسب علم الأحافير: قد وُجد قبل مائتي ألف سنة، وليس كما تظن. حسب معلوماتي غير المتجددة في هذا الجانب، ولعلهم قد اكتشفوا ما هو أقدم من ذلك. وبالتالي استدلالك بالآثار الفرعونية التي لا تصل لعشرة آلاف سنة خطأ علمي، وقفز على العلم الحديث الذي تظن أنك تستدرك به على علوم السنّة. وبناءً على ذلك: لا يمكن تقديرُ أقدمِ وجودٍ بشري، وهو وجود أبينا آدم (عليه السلام)، ولا يمكن تكذيبُ الخبر بمجرد بعض الآثار التي وُجدت هنا وهناك. ونحن نعلم أن هذه الأحافير الموجودة حُفظت في ظروف استثنائية، جعلتها تتحجر، وأن أغلب أجساد البشر قد بليت وتفتت ولم يبق لها أي أثر. فكيف يصح الرد بهذه المجاهيل المظلمة بيننا وبين نشوء البشرية، على الحديث الصحيح المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأي علم هذا الذي يرد عليه؟! أمّا أن الحديث يعارض حقيقة أن حسن التغذية وتطور الرعاية الصحية هي الأولى بزيادة الطول، فهذا كلام صحيح بالمرة، بل وهو يؤيد خبر آدم عليه السلام وطوله. فقال باستغراب: وكيف؟! فقلت له: آدم عليه السلام ليس نتاج تغذية، بل هو خلقٌ خلقه الله بيده، هذا أولاً. وثانيًا: آدم عليه السلام كان في الجنة، يأكل من ثمارها، ويشرب من سلسبيلها، ويتنفس هواءها، وأي غذاء أصح وصحة أقوى من مثل هذه النشأة؟! ولذلك فإني لا أستغرب أن آدم عليه السلام بعد أن أُهبط إلى الأرض، وبعد أن أنجب ذريته فيها، وبين الأرض والجنة من التفاوت في الغذاء والصحة ما لا تُعقد معه الموازنة = لا أستغرب أن تحدث طفراتٌ سريعة في تناقص جسم الإنسان، فيتناقص تناقصًا سريعًا جدًّا، بسبب اختلاف الغذاء ونقصانه الهائل عمّا كان عليه حال آدم عليه السلام في الجنة، وإلى ما أصبح عليه الحال في الأرض. وبذلك يكون هذا الحديث فيه إعجاز علمي! حيث أخبر عن أثر نقص الغذاء على طول الإنسان وصحته العامة، وهو علمٌ حديث كما تقول، وقد جاء ما يدل عليه في حديث طول آدم عليه السلام. فانظر.. كيف انتقل الحديث من كونه سببًا للطعن في السنة، إلى أن يكون فيه دلالة على صحة النبوة! فبادر هذا السائل للاعتراض، بدلاً من أن يفرح بالجواب الذي خَلُصَ للاستدلال لصحة النبوة، أو الذي خلص لنفي التهمة عن منهج المحدثين النقدي. فقال هذا الشاب: لكن هذا الطول لا يتناسب مع الأرض ومقدراتها المعيشية! فقلت له: أولاً: العدد بدأ بآدم وحواء عليهما السلام فقط، ثم تناقص الخلق بعد ذلك، مع اطراد زيادة العدد. ولا يقول أحد إن الكرة الأرضية كلها عاجزة عن إطعام هذا العدد القليل من الآدميين. ثانيًا: هل نسيت وجود الديناصورات، تلك المخلوقات الضخمة، والتي بلغ طول بعضها بين 33 مترًا و58 مترًا، وارتفاعها تجاوز ثلاثين مترًا. فالعلم الحديث لا ينفي، بل يثبت قابلية الأرض لحياة عملاقة كالتي وردت في الحديث. فسكت ذلك الشاب، ولا أدري أزالت رغبته في إثبات ضعف الحديث، أمّا ما زال يريد الاستدراك على العلماء بدعوى علمٍ حديثٍ، لم يتقنه، ولا أتقن العلم القديم! لكن هذه حالة تمثل العجلة والتمرد التي يعيشها شبابنا، والتي توجب تعاون أهل العلم على نقاشهم، بكل علمية وهدوء ممكنين. لكي يتعلموا التواضع مع العلم أولاً، والتحرر العقلي الذي لا يعني التمرد ثانيًا، والأدب مع الحقيقة لكي لا يقفزوا من فوقها، فيسقطوا وتندق أعناقُ فكرِهم وتنكسر أمخاخُ عقولهم!