مثلت الحالة الإسلامية في السعودية مجالًا خصبًا للبحث والتنقيب خاصة في الفترة الأخيرة، ومع شح المصادر التي توثق للأحداث والأفكار، وترصد المتغيرات والمواقف تأتي دراسة (تحولات الإسلاميين.. من لهيب سبتمبر إلى ربيع الثورات) للباحث وليد الهويريني ليستقرئ فيها الحالة الإسلامية في حقبة بالغة الحساسية ساهمت في إعادة رسم خارطة الحالة الإسلامية في المملكة العربية السعودية. هذا الكتاب الذي يوضح الباحث في مدخله أنه يستهدف منه الحديث الموجز عن أهم التغيرات الفكرية التي عاشها الإسلاميون في السعودية الذين ينتسبون في منهجهم الشرعي ومنطلقاتهم الفكرية إلى المنهج السلفي خلال الفترة الزمنية التي أعقبت ضربات 11 سبتمبر 2001 وحتى 17 ديسمبر 2010 تاريخ اندلاع الثورة التونسية. فراغ صحوي وابتدأ الكاتب فصوله بأحداث وأسباب مهدت لظاهرة تحولات الإسلاميين التي عد منها تعثر مسيرة الصحوة في التسعينيات الميلادية وبروز تيار العنف، ويرى الكاتب من خلال هذا السبب أن الصحوة الإسلامية عانت من حالة ركود دعوي وفتور بنائي جراء حالة التصعيد وارتفاع نبرة الخطاب الدعوي الذي عاد بكثير من الأضرار على الحالة الإسلامية، وظلت تعاني بسببها فراغًا قياديًا في فترة زمنية حافلة بالمتغيرات؛ مما نتج عنه بروز جيل جديد لم يكن لديه التصور الكافي عن الحراك الدعوي والإصلاحي مما أفقده حالة من التوازن والانضباط؛ فانجرفت كوادر من الشباب نحو العنف بينما اتجهت أخرى إلى معسكرات فكرية وإعلامية مناوئة للحالة الإسلامية. كما يرى المؤلف أن من الأحداث التي أثرت في تحولات الإسلاميين رحيل رموز شرعية كبرى كابن باز وغيره، الأمر الذي دفع شريحة واسعة من الدعاة إلى عدم الاهتمام بوحدة الصف واجتماع الكلمة ومحاولة التفرد بالآراء والاجتهادات. وعقب الباحث على حادثة 11 سبتمبر التي تسببت في خلع طائفة عباءة الداعية والمربي لتلبس بدلًا منها عباءة الدبلوماسي السياسي الذي يقول الكلام ونقيضه كما تجلى في تبني آراء وبيانات يراها الباحث خارجة عن النسق السلفي العام في الداخل في إشارة منه إلى بيان (على أي أساس نتعايش) الذي أصدره جملة من المثقفين السعوديين من بينهم من يسمى (مشايخ صحوة)، ويرى الباحث أن مثل تلك البيانات ومحاولة تجديد الخطاب السلفي لم يفض إلى أي نتيجة إيجابية على الأرض بقدر ما تحقق من تشطير لبنية الإسلاميين وإدخالهم في سجالات ماراثونية لا طائل تحتها. لكن المؤلف يقر -أيضًا- بأن النقد الذي طال عددًا من المحكمات الشرعية أفرز ردة فعل معاكسة لأي رؤية نقدية للخطاب الدعوي والسلفي عمومًا تجلى في تقديم تبريرات ومسوغات لكل فتوى أو رأي فقهي سائد أو موقف علمي سابق تجاه المخالفين، وأشار المؤلف إلى أن المنهجية السلفية في التجرد للدليل وتقدير الرموز لا تقديسهم كانت تظهر في الحديث عن العلماء المتقدمين أكثر منها عند الحديث عن الرموز والشيوخ المعاصرين، وهذه الحالة أضرت بالإسلاميين -كما يرى الهويريني- أكثر مما نفعت وعزز الصورة النمطية السلبية التي غرسها الليبراليون وقدموا من خلالها العلماء والمشايخ على أنهم دعاة للانغلاق والإقصاء. كما انتقد الهويريني عدم تقديم (المتحولين) لمبررات ومسوغات تحولهم بعد أن اكتسبوا قاعدة جماهيرية عريضة معتبرًا ذلك خادشًا في مصداقية تلك الرموز، وضعفًا في الالتزام الأدبي تجاه طلابهم وقاعدتهم الشعبية معرضًا بالانتقال السريع لبعض تلك الرموز وموقفها من النظم المستبدة من حالة الركون والثناء إلى حالة التصعيد والنقد في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وأشار الهويريني إلى تأثير الانفتاح المعلوماتي، ونشوء جيل ما بعد الصحوة الذي اهتم بالكتب الروائية والفكرية والحقوقية والسياسية، وما استتبع ذلك من ترميز لمن يتصدون لهذه المجالات، وأسند الهويريني غياب التدرج في بعض المطالب الإصلاحية والمقدمة بخطاب دعوي والتي كانت لا تتناسب مع معطيات الواقع السياسي والشرعي أسند ذلك إلى غياب التخطيط الاستراتيجي المستقبلي للمسيرة الدعوية وبناء طاقات دعوية وفكرية قيادية شابة الأمر الذي حل محله الاهتمام بالحشد الجماهيري الكمي. المجموعة التنويرية بعد التوطئة التي ذكر فيها عوامل ساعدت على التحولات انتقل المؤلف إلى أنواع التحولات التي حدثت خلال الفترة المذكورة؛ وهي في ثلاثة اتجاهات: تحولات سلبية وتحولات إيجابية وتحولات ملتبسة؛ ويرى الهويريني في تحليله لهذه الاستراتجية أنها باءت بالفشل في تحقيق أهدافها إلا أن ينابيع إشعالها ما زالت قائمة في ظل وجود بيئة إدارية وحقوقية تعاني أمراض المحسوبية وغياب الشفافية، بالإضافة إلى إشكاليات مناطقية وعشائرية لا يخلو منها مجتمع. كما عبر الهويريني عن الإمداد العلمي والفكري للتيار الليبرالي من خلال ما أحدثه أصحاب (التحولات الملتبسة) كما يصفهم وما تبنوه من خطاب إعلامي محايد وأحيانًا متصالح تجاه الأجندة التغريبية، بالإضافة إلى بعض الشرعيين الذين تلبسوا لبوس المشيخة والفقه، وأخذوا يقصفون من منصات إعلامية المؤسسات الشرعية والعلماء والدعاة. وضمن التحولات السلبية أفرد المؤلف مبحثًا مستفيضًا إلى حد ما لمن أسماهم (المجموعة التنويرية) وهم في مجملها مجموعة من الشباب الذين نشأوا في محاضن الصحوة الإسلامية، وعاشوا عاصفة التحولات الفكرية التي برزت بعد أحداث سبتمبر، هذه المجموعة التي اصطلح على تسميتها ب"التيار التنويري" أو "العصراني" رغم تبايناتها الفكرية إلا أنه تجمعها قضايا التجديد والحرية وذم التشدد وضرورة التعايش وغيرها، بالإضافة إلى تأثرهم بأفكار ورؤى شخصيات معروفة كالعوا وفهمي هويدي، ويوجز الهويريني أطروحاتهم الشرعية في ثلاثة معالم: الأول: تقديم النموذج الديمقراطي بوصفه النموذج الإسلامي المنشود. الثاني: الدعوة إلى حرية الرأي والفكر بما يتوافق مع الحرية الغربية. الثالث: صياغة صورة نمطية سلبية للتيار السلفي. كما أشار الهويريني إلى محاولة "الإخوة التنويريين" حشد ثلة من العلماء والدعاة الكبار في بوتقة واحدة، ومن ثم صهرها مع التنويريين تحت مصطلح (الإصلاحيين) ليقابلوا به (المحافظين) من عامة التيار السلفي، الوصف الذي لا يعبر من وجهة نظر الكاتب عن واقع موجود بقدر ما يعبر عن أمنيات من أطلق وروج لهذه المصطلحات، إلا أن الكاتب لم يغفل دور وأنشطة هذه (المجموعة) في قضايا تتعلق بالإصلاح الحقوقي والإداري مما يستحق الإشادة بهم والتعاون معهم، داعيًا إياهم إلى التفرغ لمساحات واسعة من الإصلاح دون المساس بقضايا شرعية كبرى يشكل العبث بها هدرًا للجهود والأوقات وعرقلة لقاطرة الإصلاح. التحولات الملتبسة بين التحولات السلبية والإيجابية هناك ما يصفها المؤلف ب(التحولات الملتبسة) التي غلب على خطابها العمومية والضبابية في مجالات تتطلب وضوحًا كالصراع الفكري بين الإسلاميين والليبراليين، أو كالحياد بين دعاة الشريعة وخصومها، كما يغلب على رموز (التحولات الملتبسة) طغيان لغة التعايش مع الطوائف الأخرى في ظل غياب المرتكزات والقواعد التي يقوم عليها مشروع التعايش، وضعف لغة التعايش تجاه الداخل الشرعي، يضاف إلى ذلك اتسام خطاب تلك الشريحة بالاضطراب في عرض موقف المسلم تجاه غير المسلمين، والتباس مقام التصور العقدي عن الكافر بالنصوص الآمرة بالبر والإحسان في التعامل مع غير المحارب. كما أفرزت هذه العشرية (2001-2011) تحولات إيجابية لبعض الإسلاميين- كما يفهم من سياق ما كتبه الباحث في هذا الإطار-؛ حيث أشاد بشيوع الاهتمام بالقضايا الفكرية والكتابة حولها من قبل الشرعيين، وتحقيق العديد من المسائل الشرعية والنوازل الفقهية، وزيادة المؤسسات العلمية والدعوية بالإضافة إلى المشاركة الفعالة على الشبكة العنكبوتية. وقد رصد الباحث أهم الأبعاد لهذه التحولات- بأنواعها المختلفة- والتي ساهمت من وجهة نظر الباحث في إضعاف ثقل الإسلاميين وخلخلة قدرتهم على الحشد الشعبي، كما أن تلك التحولات فكت العزلة المجتمعية والوقاية الشرعية لعدد من "المفاهيم المنحرفة" ورواد التغريب، لكن المؤلف عاد واستدرك على تلك المفاهيم التي وصفها ب"المنحرفة" خاصة ما له دلالات صحيحة وأخرى باطلة مثل التسامح والتعايش واحترام الآخر؛ واقترح الباحث في مقابل ما ووجهت به تلك المفاهيم من رفض مطلق أو تأييد مطلق اقترح استبدالهما بمنهجية التفصيل للتأكيد على ما فيها من المعاني الصحيحة ورفض ما تستبطنه من معان باطلة. اللافت في الدراسة أن من ضمن ما رصده الباحث انخفاض مستوى التدين فهمًا وممارسة في المجتمع كمعلم من معالم العلاقة التصالحية التي تبنتها بعض الرموز الإسلامية تجاه الرموز الليبرالية. وفي استشرافه لحالة الإسلاميين بعد الثورات العربية يرصد الباحث أهم التحديات التي تواجههم وهو في هذا البحث خرج عن سياق الإسلاميين في الداخل إلى التحدث عن الإسلاميين عمومًا خاصة في بلدان الثورات العربية؛ فيرصد أهم التحديات التي تتمثل في الحفاظ على المفاهيم الشرعية وتربية الأمة عليها خاصة مع اضطرارهم لدخول العمل السياسي الذي يحتاج إلى قدر كبير من المناورة والتورية لا سيما لدى الحديث عن المفاهيم المستوردة التي يعلمون مدى منافاتها للأصول الشرعية، والتحدي الآخر الذي ساقه الباحث هو الخشية من أن تتحول مهمة الإسلاميين من دعاة للنموذج الإسلامي بأصوله وقواعده إلى دعاة لأنموذج إسلامي مشوه لا يختلف عن الأنموذج الغربي إلا عبر حاشية من الأقوال الفقهية المستحدثة والاستدلالات الشاذة. ويرصد المؤلف مسارين تتجه فيهما تحولات الإسلاميين -في بعض دول الخليج- متأثرة بأجواء الربيع العربي، وهما: "المستوردون" للنموذج الديمقراطي بكل حمولاته الفكرية الغربية، وهم خليط من تنويريين وإصلاحيين وأكاديميين وناشطين حقوقيين بالإضافة إلى شباب متطلع للإصلاح، والمسار الثاني الذي رصده الباحث هو مسار الإسلاميين والمثقفين الإصلاحيين الذين يستهدفون تفعيل النظم والقوانين المستمدة من أحكام الشريعة ومن المخزون السياسي الشرعي لسير الخلفاء مع ترحيبهم بالمنجزات الإنسانية المعاصرة كالجوانب الإجرائية في العملية الديمقراطية، مؤكدًا أن هذا المسار يستمد زخمه من أصالته الشرعية وتوافقه مع هوية الوطن ومرجعيته الدستورية المتمثلة بالشريعة الإسلامية. إن الكاتب لم يقدم التحولات بوصفها حركة صيرورية في تطور الأفكار وثباتها والصراع بين نقيضي أي أيديولوجية بقدر ما قدم وصفًا لهذه التحولات هو أشبه بالهجوم عليها وانتقادها -خاصة السلبية والملتبسة على حد توصيفه-، وإن كان في ثنايا كتابه قد ألمح إلى بعض المبررات الواقعية التي دفعت بهذه التحولات من طرف التيار السلفي العام لكنه لم ينقدها ولم يقدم حلولًا لتلك الإشكاليات التي اعترف ببعضها، غير أنه ذكر استراتيجيات يمكن أن تعيد اللحمة وترأب الصدع بين (الثابتين) و(المتحولين)، كما أن الكاتب لم يقدم تلك التحولات على أنها نظرة واجتهادات إسلامية لكن من زاوية أخرى وإن كان أقر بصوابية بعض أطروحاتها. .. والمؤلف يؤكد على عدم حصر إيجابيات التحولات في تيار بعينه الهويريني: "التنويري" في مصر ينتقد العلمانية بينما فيى بعض دول الخليج يدعمها وفي تعليقه على بعض ما وجه للكتاب من انتقادات قال المؤلف في تصريح ل"الرسالة": إنه يعتقد أن هذا الكتاب هو التوثيق الوحيد -حتى الآن- لمسيرة تحولات الإسلاميين في السعودية، وأكد الهويريني أنه لم يكن هناك توسع للمعايير التي يمكن أن يبنى عليها الفرز المذكور في الدراسة -وهو النقد الذي وجه للدراسة من بعض الباحثين حيث ظهرت الدراسة متحيزة لطرف دون آخر- إلا أن الهويريني رد بأنه لم يرِد أن يكون الكتاب بشكل أضخم مما هو عليه، بالإضافة إلى تأكيده أن هذا الرصد جاء من وجهة النظر السلفية التي يتبناها والمعتمدة على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح. وعن تلك التحولات الموصوفة بالسلبية أو الملتبسة وما إذا كانت تمثل استجابة لتحديات الواقع خاصة أن الاختلاف أغلبه في الفروع أو في تفسيرات معينة لبعض الأصول أوضح الهويريني أن التكيف مع الواقع مطلوب وموجود في الشرع، وله صورتان في الساحة: تكيف يحافظ على المقاصد العامة للتصور الإسلامي، وهذا الذي يكون بأدوات علمية منضبطة مستندة لما قرره أهل الاختصاص من أهل الشريعة، والتكيف الآخر الذي لم ينطلق من تصور إسلامي، وإنما انطلق من رؤية غير إسلامية. وأوضح الهويريني أن من يسميهم أصحاب "التحولات الملتبسة" هم أقرب إلى ما يسمى بالتيار "الإسلامي المستنير" والذي يحاول تكييف الأحكام الشرعية بما يتوافق مع المفاهيم الغربية السائدة والمهيمنة على أجندة العالم اليوم. وكشف الهويريني ما قال إنه فهم خاطئ لبعض قراء الكتاب حينما ظنوا أن المراد بهذا التقسيم الثلاثي هو الفصل التام بين هذه التقسيمات بحيث يفهم أن تيار التحولات الملتبسة ليس لديه إيجابيات أو أن الإيجابيات محصورة في تيار التحولات الإيجابية. وأوضح الهويريني أن هناك تحولات إيجابية لدى الجميع ودلل بذلك على أن أصحاب "التحولات الملتبسة" كانوا سباقين في استثمار الشبكة المعلوماتية، كما أوضح أن هذا التصنيف ليس قائمًا على تقسيم تيارات أو أفراد وإنما تقسيم لرصد هذه الظواهر الفكرية. وأشاد الهويريني بالتيار التنويري رغم تصنيفه تحت التحولات السلبية إلا أن له جهودًا مشكورة في الإصلاح الحقوقي والسياسي، كما أنه دعا إلى الاجتماع والتوافق معهم على الأجندة الإصلاحية المشتركة، ونفى الهويريني ما توهمه البعض من أنه حصر التحولات الإيجابية فقط في تيار بعينه رغم تأكيده على غلبة التحولات الإيجابية على ذلك التيار لكنه يؤكد في ذات الوقت أن التحولات السلبية لم تكن متمحضة في تيار معين. وعن سؤاله حول الانتقاد الذي وجهه للمتحولين وأنهم تسببوا في شق صف الإسلاميين وما إذا كان ذلك مبررًا للبقاء على نفس الأفكار حتى لو كانت خاطئة أجاب الهويريني أن ذلك ليس مسوغًا حين يتبين الحق لإنسان في جانب معين أن يبقى على رأي إذا ظهر له أن مفاسده قد تكون أكبر من مفاسد الحق الذي يعتقده، لكنه شبه تلك الحالة بالصفقة التي عقدت من قبل أصحاب "التحولات الملتبسة"، مشيرًا في ذات السياق إلى التيار التنويري في مصر الذي ينتقد وبشدة التيارات العلمانية والتغريب كما هو حاصل مع العوا ومحمد عمارة الذين كان لبعضهم مناظرات مع فرج فودة بخلاف ما هو حاصل في الساحة الخليجية والذين مثلوا -كما يقول الهويريني- دعمًا غير مباشر للتيار الليبرالي حيث سكتوا بالكلية عن المشروع التغريبي. وأكد الهويريني أن أولئك "الفضلاء" مارسوا نقدًا للخطاب السلفي السائد بعضها صحيح وبعضها خاطئ لكنهم كفوا تمامًا عن أي عملية نقدية للهجمة التغريبية التي كانت تضرب المنظومة المحافظة في البلد.