تعوَّدت آذاننا سماع كلمة (المليونية) في مسيرات الاحتجاج العربي، التي باتت تحمل نكهة سياسية وحقوقية. كما تعوَّدت أبصارنا أن ترى المليونية في معظم أنحاء العالم مطلع كل عام ميلادي جديد، وهي تجتمع عند ساحة المراكز الكبرى، والشواطئ السياحية، وما تصحبه فعاليات عيد رأس السنة من حفلات وبرامج. لكن المشهد هنا مختلف تماماً على آذاننا وأبصارنا. نعم هي مليونية، وبعد ليل أول يوم من عيد رأس السنة -كما يقولون-، لكنَّ الحال جديد تماماً، ولعلها ثورة ربيع أخرى!. ففي الخَبر الذي نشرته جريدة (الزمان) التركية صباح اليوم الأول من السنة الميلادية 2013م، أن أهالي مدينة (بورصة) التركية أرادوا أن يبدأوا عامهم الجديد بالطاعة، فعندما دقت الساعة السادسة والثلث صباحاً بتوقيت مدينة بورصة، رُفع الأذان لصلاة الفجر، فهب مئات الآلاف من كل مكان في المدينة نحو جامع «أولو» الشهير، وقد أصيب كل من وصل للجامع بالذهول من حشود المصلين الذين اتفقوا على رغبتهم أن يبدأوا عامهم الجديد بطاعة ترضي الله سبحانه وتعالى، حتى قال أحد رواد المسجد، «أصلي في هذا الجامع منذ 20 عاماً، فلم أرَ يوماً أن صلى في الجامع عدد كهذا». وقد بثت وكالة الأنباء التركية «رصد» صور بالتاريخ، يُرى فيها المصلون كأنهم في صلاة عيد، رغم أن صلاة الفجر لذلك اليوم تأتي في وقت شتاء وبرد شديد. لقد عادت الفطرة إلى بارئها، واستيقظت الروح الإيمانية، وهبَّ العملاق من سباته، وعاد لوعيه ورشده وروحه. عاد لألقه، والشعور بحقيقته، ومصيره. عاد بعد حرب على الإسلام وأهله من أقطاب العلمانية في تركيا، من خلال علمانيتهم المتطرفة، وانسلاخهم من حضارتهم، ومحاولة محو الهوية الإسلامية، لكنها لم تتأثر بهذا الغثاء الذي طفح، والزبد الذي زال. عادت شلالات الإيمان تتدفق في قلوب المؤمنين، وهبَّت نسائم الإيمان تنعش أرواح الظامئين. أن تفتح محراب الصلاة، يعني أنكَ تبحرُ إلى مقاماتِ النورِ تحتَ أشرعةِ السلام، عبرَ رياضةِ الروحِ للأنبياءِ والصديقين.. حيثُ تفيضُ الروحُ ببهائها إلى ملكوتِ خالقِها. إنها رحلةٌ تؤنسُكَ فيها قناديلُ الصلاةِ بأنوارها المشعَّةِ من الأذانِ إلى تكبيرةِ الإحرام، ومن الفاتحة إلى السلام. بل من الوصولِ لمحرابِها إلى الرباطِ في انتظارها. تُذكِّرنا (مليونية الفجر) بسير العظماء في أمتنا المؤمنة، الذين كانوا يعتقدون أن صلاة الفجر مع المسلمين في جماعة، هي سر بركة الله لهم، ومفتاح سعادتهم، وبوصلة إيمانهم. كيف وفي صلاة الفجر الأجر الثابت في حفظ الله ومعيته لمن صلاها، ورفع صالح عمله، وبشارة الله للمشائين لها في الظلمات. ولذا استمرت قافلة العظمة والنور مستمسكة بهذا التيار الإيماني، حتى شهد التاريخ بحضورهم البدني والنفسي والقلبي. فهذا عمر رضي الله عنه يُستشهد في صلاة الفجر، وعلي رضي الله عنه يُستشهد في طريقه لصلاة الفجر، وأحمد بن حنبل تروي عنه أمه التي كانت تأخذه وهو ابن السبع سنين لصلاة الفجر، وأثر ذلك عليه كثيراً، وعمر المختار الذي كان يُغِير على «الطليان» في معاركه بعد صلاة الفجر، ومحمد الفاتح الذي دخل القسطنطينية بعد صلاة الفجر، وصلاح الدين الأيوبي الذي تسلَّمَ مفاتيح بيت المقدس بعد صلاة الفجر، ومالك بن نبي الذي كان يقف عند باب المسجد النبوي حتى يُفتح ليؤدي صلاة الفجر. وسلسلة طاهرة مؤمنة كانت ترعى حق الله في نفسها، وتؤدِّب ذاتها، وتتعرض لنفحات خالقها. وبهذا الحال المهيب، وذاك الحضور القلبي العظيم، تتبدد نظرية المستعمرين الذين كانوا يقولون: «إذا رأيتم عدد المسلمين في صلاة الفجر في المساجد كعددهم وهم في طريقهم لأعمالهم، فإن هذا أوان نصرهم». وإنه لقريب بإذن الله. [email protected]