أظهرت ثورات الربيع العربي تصدعات المجتمع وانشقاقاته الفكرية بشكل واضح وجلي، ولم يعد خافيًا الاستقطاب الحاد بين النخب العلمانية والإسلامية، فهل هناك مشتركات يمكن الاتفاق عليها بين الطرفين؟ وأي مساحة يمكن أن تجمع المتقابلين؟ ومن يمكن أن يلعب الدور في تجسير الهوة بينهما؟ وكيف أثرت هذه الصراعات على حاضر المجتمع ومستقبله؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الدكتور جمعة شيخة أستاذ التعليم العالي بتونس والمختص في الحضارة والأدب مؤسس ومدير مجلة دراسات أندلسية، فإلى تفاصيل الحوار: إلى أي مدى وصلت الهوة بين الإسلاميين والعلمانيين؟ وصلنا إلى مرحلة شبه خطيرة لأن التجاذبات بين العلمانيين والإسلاميين لم تعد تترك الفرصة إلى أن يعمل هؤلاء أو هؤلاء فانشغلنا بالكلام وبالاتهامات دون أن نفكر بأن نترك المجال للذي في السلطة أن يعمل ولا للمعارضة النزيهة أن تفكر، فهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى انشغالنا بأشياء هامشية ونترك الأشياء التي تهم المجتمع وتهم الاقتصاد وتهم السياسة وتهم مستقبل البلاد. أي مساحة مشتركة يمكن أن تنجح الحوار بين الطرفين؟ أن نعتبر العلمانية ليست كفرًا، وليست ضد الدين، فعندما نقول فلانا علمانيا ليس معنى هذا أنه مشرك أو كافر لا أبدًا، فمثلًا رئيس الوزراء التركي علماني ولكن هو متدين ومؤمن، كذلك العلمانيون يعتبرون أن الإسلام ضد الديمقراطية وضد الانتخابات وضد الحرية إلى غير ذلك، بل العكس هو الصحيح فالإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية ولا مع الحرية، إذا زال هذا المفهوم الأول عن الإسلاميين، وزال المفهوم الثاني عن العلمانيين يمكن أن نقترب من بعضنا أقصد يقترب السلفيون من العلمانيين، ونصل إلى حل وسط، وهذا ما تفعله كل الشعوب المتقدمة هناك الحلول الوسطى لنفكر في ما يهم البلاد اليوم وغدا. الحضارة الأندلسية في رأيك كباحث هل تجتمع القيم الإسلامية مع معطيات العصر ومع التجارب الناجحة التي أصبحت نموذجا يحتذى بها؟ أنا في نظري ومع اختصاصي في الحضارة الأندلسية أرى أن التاريخ الإسلامي في هذا الجزء من أوروبا في ذلك الوقت أرى أن الدولة الإسلامية بالأندلس كانت تطبق حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وكثيرًا من الأشياء التي نسعى أن تكون في الحاكم وفي المعارض؛ فالقاضي البلوطي كان يقف في مسجد قرطبة ويسمع الكلام لأكبر حاكم في أوروبا لعبدالرحمن الناصر إلى أن يبكيه، ويشكره بعد ذلك الخليفة لأنه بين له أسباب النقص في المجتمع، هذا حقيقة نموذج من الحاكم ومن المعارضة في ذلك الوقت. فنحن لا نقول إننا سنأخذ نظام الأندلس السياسي والاقتصادي والإداري في ذلك الوقت وإنما نقتبس الآثار الايجابية في تاريخنا الإسلامي، وفي الحكم الإسلامي الكثير من الأشياء الايجابية نأخذها وهناك أيضًا الكثير من الأشياء السلبية يجب أن نتجنبها، ويجب على العلمانيين أن يعتبروا أن التاريخ الإسلامي فيه هذه الايجابيات وفيه السلبيات، كما أن السلفيين يجب أن لا يعتبروا أن تاريخنا الإسلامي من أوله إلى آخره هو كتاريخ السلف الصالح والخلفاء الأربعة، الخلفاء الأربعة طبقوا الإسلام والحكم بنزاهة بينما في ما بعد أصبح كما يقول أبن خلدون ملكا عظوظًا، وهذا الملك أصبح مطلقًا وبالتالي انزلقنا إلى كثير من الأشياء السلبية. هل من الممكن الحديث عن تعايش بين الإسلام والعلمانية؟ فعلًا، لنتجنب هذا المآل لا بد من أن نجد صيغة للتعايش السلمي بين العلمانيين والإسلاميين في بلدان الربيع العربي وبخاصة تونس ومصر، وذلك بإزالة الغموض في مصطلحين أساسيين: فالعلمانية ليست كما يرى بعضهم أنها ضد الدين أو نقيض الدين، والإسلام في ثوابته ليس ضد الحرية والديمقراطية والانتخابات كما يذهب بعضهم وكما نسمعهم يروّجون له كل يوم جمعة في خطبهم المنبرية وأمام ملء قادر على التمييز بين الحق والباطل تارة، وغير قادر تارة أخرى. وبما أننا نؤمن بأن كل بلد له خصائصه وبالتالي نظامه ومؤسساته، فإننا نرى في علمانية النظام التركي ما يمكن أن يكون لنا نموذجًا الاستفادة منه ممكنة والاستعانة به لا تعتبر عيبًا أو جريمة، لذا فإن محاولة العلمانيين استبعاد كل ما له علاقة بالدين في نظام الحكم، ومحاولة السلفيين استبعاد كل مظاهر الحداثة فيه هو جريمة في حق أوطاننا وأمّتنا؛ فالأصالة لا تنفي التفتح ولا تعني الانغلاق، والحداثة لا تعني التنكر لما هو ايجابي في تقاليدنا وممارساتنا السياسية والاجتماعية، والاقتباس من الغرب ومن نظمه لا يعني الانسياق وراء ما لا يتماشى مع قيمنا ومثلنا العليا. مستقبل الحوار أي مستقبل للحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس على غرار تحالف النهضة والأحزاب المشاركة معها في الحكم؟ أن نأخذ القواسم المشتركة، هناك قواسم مشتركة كحقوق الإنسان مثلا هذه يؤمن بها العلمانيون والسلفيون، تنظيم انتخابات نزيهة وعادلة، هذه كلها أدوات يمكن أن نتحدث فيها ثم خاصة يجب أن نفكر كيف ننقذ اقتصادنا، كيف نغرس قيم العمل، مع الأسف في مجتمعنا أصبح هناك نوع من الإهمال، وهذه الأمور من شأنها أن تخرب الاقتصاد؛ بدون عمل جدي، وبدون إنجازات فإننا لا نستطيع أن نحقق ما يصبو له الشعب. التخفيف من الحدة في رأيك هل أصلحت الثورة في بعض الدول العربية بين العلمانيين والإسلاميين؟ لا، أرى العكس، هي أججت الصراع بينهما ودورنا كمجتمع مدني التخفيف من هذه الحدة ما بين الإسلاميين والعلمانيين لأنه بدون إيجاد أرضية مشتركة بين الاثنين فإننا سنخرب كل شيء، وسيكون التجاذب بينهما خطرا على الربيع العربي لسبب بسيط ومهم هو أن هذا التجاذب تحول إلى صراع تلعب فيه عناصر داخلية بعضها مسند مع الأسف من قوى خارجية وهنا مكمن الخطر، والاتجاهان وبخاصة المتطرّفون منهم أصيبوا بمرض نفساني خطير؛ فالأيديولوجية الإسلامية السلفية أصيبت برهاب الحداثة فكل مظاهر العلمانية وبخاصة في الممارسة السياسية تزعجهم وتقضّ مضجعهم وأصيب العلمانيون كالغرب برهاب الإسلام فكل مظاهر الفكر الديني في هذه الممارسة تقلقهم وتهزّ كيانهم وليس لنا من تشبيه لهؤلاء وهؤلاء إلا القول: إن السلفيين والعلمانيين هم كبحارة سفينة دون شراع يستطيع أن يستغل كل ريح تهب، بمعنى أن هناك غيابا للبرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدى الطرفين؛ فاستعمل كل طرف مجاذيبهم لكن في الاتجاه المعاكس فكانت النتيجة أن توقف المركب في مكانه، وليس غريبًا بقوة ارتطام الأمواج به أن ينشطر والمآل لا قدر الله يغرق المركب بمن فيه وما فيه.