عشرون نصيحة وجهها سماحة المفتي العام في خطبة الجمعة الماضية من على منبر الجامع الكبير بالرياض، وأعتبرها خطبة غير مسبوقة وتطورا كبيرا في لغة الخطاب ومستوى المخاطبين، حيث إن سماحته - حسب ما نشر في الصحف - شن هجومًا على المسؤولين الفاسدين، داعيًا إياهم إلى البعد عن تشريع الأنظمة المخالفة لتعاليم الإسلام، وقال إن ذلك مردود عليهم، وعليهم أن يتقبلوا النصيحة، ويعدلوا بين الناس. ويظهر لي أن سماحته لا يعني التشريع المعروف وهو الأنظمة (القوانين)لأنها من صلاحيات السلطة التنظيمية (التشريعية) وهما مجلس الوزراء ومجلس الشورى، ولا يستطيع أي مسؤول سواهما أن يشرع وإنما ينفذ وفقًا لما يحتمله منطوق ومفهوم الأنظمة وبما لا يخالف نص النظام ومن باب أولى ألا يخالف الدستور وهو النظام الأساسي للحكم الذي نص على أن دستور المملكة العربية السعودية هو الكتاب والسنة حسب المادة الأولى منه، كما يظهر لي أن سماحته يعني في المقام الأول معالي وزير العمل وذلك بدليل إشارته إلى أن أي نظام سن لتخالف المرأة فيه شريعة الإسلام في مظهرها أو يسمح فيه بالاختلاط بالرجال فيعد من الأمور الخطيرة، وأكد على وجوب عزل المرأة عن الرجال لأن الاختلاط لا يجوز، واعتبر الداعي لذلك ممن يريدون السوء وإفساد الأخلاق والقيم والفضائل في المجتمع. وخطاب سماحته هنا ليس في مقام الإفتاء فنقول بأنه غير ملزم وأنه مخبر عن حكم شرعي وعلى المقلد المستفتي العمل به، وليس هو أيضًا في مقام النصيحة المجردة بقدر ما هو استنكار على فعل محرم، وهذا المحرم هو الاختلاط في العمل بلا انضباط شرعي وهو الذي شاع وانتشر في الميادين والأسواق والمتاجر خلال الفترة الماضية، ولو كان مبدأ الاختلاط محل خلاف في تحريمه لأن الأصل الإباحة، إلا أن الجميع مجمع على الضوابط الشرعية التي يجب التقيد بها، وهي التي أشار إليها ولي الأمر في توجيهاته وقراراته ونص عليها في الأنظمة، وعليه فيجب على وزارة العمل أن تلتزم بالشريعة والقانون ولا تأخذ نصف الأمر وتتجاهل نصفه الآخر، فما دامت سمحت بالاختلاط في العمل فعليها أن تلتزم بتحقيق الضوابط واستيفاء الشروط ليكون الاختلاط حينئذ مباحًا، وإلا فيكون محرمًا عند الجميع، لأنه لا أحد من الفقهاء لدينا يقول بجواز الاختلاط المطلق، وإنما المقيد بالضوابط الشرعية، وأي تقيد مزعوم الذي نراه في المطاعم والمتاجر وميادين العمل اليوم، ومن المؤسف أن معالي وزير العمل مارس الطرف المقابل لطرف المتشددين الذين حرموا الاختلاط كله حتى في حال استيفاء الضوابط الشرعية، وجعلوا الاختلاط بحد ذاته محرمًا وبكل إطلاق، وفي الطرف الآخر الذين أباحوه بإطلاق ولم يلتزموا فيه بتحقيق الضوابط الشرعية، ووزارة العمل تعتبر في هذا الطرف عبر ممارساتها لتطبيع وفرض الاختلاط المطلق غير الملتزم بالضوابط الشرعية، ويكفي ما رأيناه من موقف معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ الدكتور عبداللطيف آل الشيخ حيث هاجم وزارة العمل في شأن الاختلاط، مع أن فضيلته ممن سبق له الرأي في جواز الاختلاط المنضبط شرعًا، ولكنه صرح بأن عمل الوزارة ليست منضبطة وبالتالي اختلاطهم محرمًا، وكذلك صرح غيره ممن لهم آراء مجيزة للاختلاط المنضبط ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور عيسى الغيث القاضي بوزارة العدل حيث نشر له استنكاره لفعل وزارة العمل وتبرؤه من جواز ذلك مع أن فضيلته ممن أجازه ولكن بضوابط شرعية وليس بهذا الشكل المطلق المسيء لثوابتنا الدينية والأخلاقية، وعلى هذا فيعتبر معالي الوزير منكشف الغطاء الشرعي بعد تبرؤ حتى المشايخ المجيزين للاختلاط فكيف بغيرهم ممن يحرمه جملة وتفصيلًا، ولعل هذه المواقف الجديدة هي التي جعلت الوزير يرضخ لطلب المحتسبين ويقابلهم، وكان معاليه في قمة الحكمة والاحترام والتسامح معهم، في حين كانت كلمة الشيخ عبدالرحمن أبانمي غير موفقة مع حسن ظننا بنيته ولكن لا يليق به الهجوم على الوزير والنيل حتى من الأموات والتألي على الله في زعم استجابة دعائه الاحتسابي على غيره. ولم يكتف سماحة المفتي العام بمهاجمة الفساد الأخلاقي وفاسديه، وإنما هاجم كذلك الفساد المالي والإداري ونبه إلى خطورة تكسب المسؤولين من مناصبهم، ودعا إلى المحافظة على الأموال العامة والبعد عن الحرام، وكم كنت أتمنى أن تشمل خطبة سماحته توجيه النصيحة لغلاة الاحتساب والذين يعتدون على الأحياء والأموات بذريعة الحسبة. [email protected]