كنت مغرماً خلال الفترة الطويلة التي قضيتها في الولاياتالمتحدةالأمريكية بالاستماع إلى قنوات الإذاعة، خاصة أثناء تنقلي ذهاباً وإياباً بين بيتي في منطقة شمال فيرجينيا ومكتبي في واشنطن العاصمة. كان راديو السيارة هو رفيق دربي في تلك الرحلة بقنواته الإذاعية العديدة والمتنوعة في اهتماماتها بين قنوات تعليمية واخبارية ورياضية وموسيقية. كانت هناك قنوات مثيرة للجدل مثل قناة "رش ليميو" السياسية وقناة "دكتور لورا شلسنقر" للاستشارات النفسية والعاطفية اللتين أصبحتا من أشهر القنوات الإذاعية في أمريكا، بل إن البعض يصنفهما على أنهما اليوم من أشهر القنوات في تاريخ أمريكا. المسافة اليوم بين بيتي وعملي في جدة هي تقريباً نفس المسافة بين بيتي وعملي في أمريكا، غير أن الفرق الوحيد هو أني لا أذكر قيامي بفتح راديو السيارة هنا إلا نادراً. لقد استبشرنا كثيراً كمتخصصين وكمستمعين عندما وافقت وزارة الثقافة والإعلام على إصدار تصاريح قنوات FM جديدة، غير أننا فوجئنا بأن معظم تلك القنوات استهدفت ببرامجها شريحة عمرية محددة هي شريحة صغار السن باعتبارها الأكثر استماعاً لقنوات الإذاعة.. فهل حقاً لا زال صغار السن هم الأكثر استماعاً للبرامج الإذاعية؟ وهل استبعاد الشرائح العمرية الأخرى من اهتمامات تلك القنوات بشكل كامل أو شبه كامل هو فكرة صائبة اقتصاديا ومهنيا؟ قمت مؤخراً بإجراء دراسة لجهاز راديو وتلفزيون الخليج بعنوان "تأثير تكنولوجيا الاتصال الحديثة على الاذاعات التقليدية" وكان من ضمن الأسئلة التي تم طرحها على عينة الدراسة تحديد أكثر الوسائل التي يقومون باستخدامها للاستماع للموسيقى والبرامج الصوتية الأخرى. وقد أجاب 49,9% من تلك العينة صغار السن (أقل من25 سنة) بأنهم يستخدمون أجهزة ال iPod ومشغلات MP4 في حين أجاب 23,3% فقط ممن هم أكبر من 25 سنة باستخدامهم لتلك الاجهزة. بالنسبة للراديو التقليدي فقد أجاب 31.4% فقط من الشريحة الأكبر سناً بأنهم يستمعون اليه، مقابل 29.5% فقط من الشريحة الأصغر سناً أفادت باستماعها لبرامجه. هذه النتيجة لوحدها كافية للإشارة إلى أن شريحة صغار السن في السعودية أصبحت تتجه في ميولها بعيدا عن الراديو التقليدي وأكثر تفضيلاً لاستخدام أجهزة ال IPod وال MP4 الحديثة للاستماع إلى الموسيقى والملفات الصوتية. بعكس كبار السن الذين لم يُبد أغلبهم اهتماماً كبيرا بتلك الأجهزة، وفي هذا دلالة على أن هذه الشريحة قابلة للاستهداف بالراديو التقليدي فيما لو أنها وجدت فيه محتوى إذاعياً يتناسب مع ميولها. نقطة أخرى هامة ينبغي أخذها في الاعتبار وهي أن هؤلاء المستمعين الأكبر سناً عادة ما يكونون هم الأكثر قدرة على شراء السلع والخدمات المعلن عنها. في اعتقادي أن صناعة الإذاعة لدينا بحاجة إلى أمرين: الأول، قيام قنوات FM الحالية بتجديد محتواها ليتناسب مع شرائح المجتمع المختلفة وتقديم برامج أكثر جدية وتنوعاً. الأمر الثاني هو النظر في تقديم المزيد من تصاريح الإذاعات بتكلفة معقولة، حيث أن تكلفة الرخصة تراوحت لدينا بين 60-75 مليون ريال (16-20 مليون دولار)، في حين أنها في أمريكا تتراوح بين 100 ألف إلى مليون دولار، وهو فرق شاسع جداً. ومن ناحية أخرى يوجد في أمريكا حوالي 13,476 قناة، منها 20 قناة في منطقة واشنطن العاصمة، و393 قناة في ولاية فرجينيا. وواشنطن منطقة صغيرة مساحتها 177كم2 وعدد سكانها 618000 نسمة، مقارنة بمدينة جدة التي تبلغ مساحتها الإجمالية 5460 كم2 وعدد سكانها 3,4 مليون نسمة. الفرق بالتأكيد كبير جداً من حيث المحتوى والعدد والتكلفة ويستحق المراجعة والدراسة.