في يوم مشرق الطلعات أهدى لي أحد الأصدقاء وأنا في الكويت كتاب: (العود الهندي) للعلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، فأخذت الكتاب وأنا في طريقي إلى المطار أتصفحه فأسرني بسحره، وسحرني بأسره، وبهرني بنوره وأبهجني بجماله، حتى صرت في صالة المطار في شبه ذهول: كأنني خرجت من عالمي لا أحس بأحد بجانبي ولا أدري أين أنا وكلما قلبت منه صفحة زادني نشوة وطرباً، وملأني روعة وعجباً، فما تركت المجلد الأول من يدي حتى ختمته، ثم أتممت الكتاب وأعدت النظر فيه أفليه، أترنّم به، أذوقه، أشمه، احتسيه، أرفع عقيرتي بأبياته، أبكي مع المؤلف وأضحك معه، أسافر في زورق إبداعه، أعجب من اطلاعه وحسن سبكه وجميل صياغته ولطيف إشارته وعذوبة عبارته، ورقة طبعه وسيلان ذهنه، وحضور ذاكرته وبراعة استدلاله، وقوة انتزاعه وسلامة فطرته وصفاء مشربه، ثم هو مشبوب العاطفة جيّاش الفؤاد غزير الدمعة، خفيف الروح ذو ذاكره وقّاده، وطبيعة منقاده، يصيب المرمى ويجيد التصويب، مع علم غزير ومادة حاضرة، فهو علامة فقيه، محدث مفسر أديب شاعر ينظم عقود جواهره بآية محكمة أو حديث صحيح أو بيت لطيف أو فائدة شرود، أو قصة موحية، أو حكاية مشجية، أو مثل سائر، فهو يتأنّق بك في روضات ممرعات دمثات، وينزل بك في حدائق ذات بهجة من نصوص مشرقة ومحفوظات نافعة، وقد أحضر روحه وسكب مع قلمه نبوغه وأفرغ شآبيب عبقريته مع براعته، وكأني به وهو يكتب هذا السفر في وهاد حضرموت قد ودّع نومه، وفارق كراه وتصدّق على النجوم بنعاس أجفانه، وتخيلت أن دمعه مازج حبره، وأن ضحكة صادق صريف أقلامه وأن تبسمه شابه بياض أوراقه، فلله هو كيف استطاع أن يقتحم معاقل قلوبنا وأن يستولي على ثكنات نفوسنا، ولكن صدق المعصوم صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، عشت مع السقاف في عوده الهندي فنسيت كل كتاب أدبي أو ديوان شعري قرأته، مع العلم أنني من الصبا وأنا أبدي وأعيد في الموسوعات الأدبية حتى صرت بمعالمها أهدى من سرب القطا إلى عشه فلما طالعت العود الهندي صحت: محا حبها حب التي كن قبلها .......... وحلت محلا لمن يكن حل من قبلي وقلت: الآن يحق للحضارم خاصة والعرب عامة أن يفاخروا بهذا الكتاب، وقلت في نفسي: ليت السقاف صبر وأكمل لنا عشرة مجلدات على نفس السياق وعين هذا المساق لكن يظهر أنه أدرك مشهد: (والتفت الساق بالساق)، فغفر الله له وأكرم نزله ولو طالعت مجلداتي من العود الهندي لوجدتها قد تفصّمت عراها ونحلت أوراقها من كثرة التقليب والتفتيش، وقد ساعدني السقاف على استخراج زفرات الحنين المدفونة في جوانحي، واستنزاف بقايا من دموع غائرة في محاجري: قَد كُنتُ أُشفِقُ مِن دَمعي عَلى بَصَري......... فَاليَومَ كُلُّ عَزيزٍ بَعدَكُم هانا كنت أحدث الناس في المجالس عن الكتاب وأسره وسحره وسطوعه ولموعه وشوارده وفؤائده، فلا أجد إلا الواحد أو الاثنين يفهمني لكثافة الطبع وثخانة الخاطر وثقالة الدم والانهماك في الماديات من مطعم ومشرب وملبس ومركب حتى صار العقل كتلة من الفول السوداني المدمّس المثلج تحت درجة الصفر لسقوط الهمم، وبرود العزائم، وجمود القرائح، وخمود الذاكرة: (وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب). ما في الخيام أخو وجدٍ نطارحه............ حديثَ نجدٍ ولا خلّ نجاريهِ ولقد أمتعني السقاف بدعاباته وفيض تعليقاته فمرة يثني على صاحبه المتنبي ويسيل قلمه معجباً بهذا النبوغ حتى يسأل الله أن يتجاوز عنه لحكمته وبراعته، ثم يعود عليه بالذم صادقاً لهزال بعض آبياته ولكن بصدمات كهربائية لاذعة كقوله: هذه الأبيات لا تحصل إلا بخذلان من الله وكقوله: هذه الأبيات من رقى الشيطان وتمائم إبليس. والسقاف مدرسة في الذائقة الجمالية الأدبية فحسبك به معرفة لجزل القول وناصع الكلام وخالص الحديث، بل هو إمام في النقد الأدبي، وهو كاتب ساخر إذا أراد، وراوية ملهم، وقاص مشج، وشاعر لا يشق له غبار مع حفظه لناموس الشريعة وهيبة الملة، ومقام الدين، وهذا الذي فاق به على كل الأدباء، ولا أدري كيف استطاع أن يؤلف بين القرين وقرينه من الشواهد، فهو ينثر أمامك المصادر ويعزو إليها في الغالب، وعنده ملكة الاصطفاء وموهبة الاختيار، فلا تقع عينه إلا على الأجل الأجمل، ولا يصطفي إلا الغالي النفيس، ويا له من مؤلف موهوب يضع الآية بجانب الأثر والبيت في صف المثل، والقصة تلو القصيدة، ولن تمل مع السقاف أبداً؛ لأنه لا يتركك تمل إذ يشجيك ويبكيك ويضحكك ويسبيك ويقص عليك وينعشك ويهزّك ويطربك، وكلما سافرت معه في هذا الكتاب الماتع الذائع الرائع الشائع، صحت: أين أهل الأدب الهزيل والشعر الهش والقول الساقط من هذا الفيض الوجداني والسحر الأدبي؟ وأين دعاة الهذيان من مملكة الإبداع، وإيوان الإقناع، وبهجة الخاطر الذي فتح لنا السقاف آفاقه، وسكب فيه ترياقه، وألهبنا بأشواقه وإشراقه؟ وليت أهل العلم والفقه والفتيا يرطّبون مشاعرهم بهذه النفحات الأدبية ليعذب قولهم وتجمل عباراتهم كما كان ابن عباس والشعبي والشافعي وغيرهم من علماء الأمة حيث يذوب كلامهم رقة وعذوبة وحلاوة وطلاوة، إنني أرشح كتاب: (العود الهندي) للسقاف منهجاً دراسيّاً في الأدب ومورداً عذباً في النوادي والجامعات والمدارس ونهراً صافياً لرواد البيان ورموز الفصاحة وصنّاع الحرف الجميل: (عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً) وسوف أجعل كتاب (العود الهندي) بمشيئة الله مادتي في دروس الأدب والشعر؛ لأنني وجدت فيه ضالتي بعد ثلاثين سنة من الترحال في شعاب الأدب وأودية الشعر: (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها). ومن حسن الطالع أن السقاف حضرمي والمتنبي كندي حضرمي وصاحب الدار حضرمي: (فالتقى الماء على أمر قد قدر). وقد فاح طيب العود الهندي، في إيوان أبي الطيب الكندي، وهذا ما ميّزه عندي: يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى.................. إليكم تلقَّى طِيبكم فيَطيبُ لقد فهم السقاف معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم الخالدة القرآن الكريم وأنّ من أعظم معالمه البيان الآسر الذي أذعنت لفصاحته العرب العرباء، وسلّمت لبلاغته فحول الشعراء، فإنه دمغ رؤوس الضلالة بهيبة جلاله، وأفحم أساطين القول بسيل عرمرم من الخطاب المعجز (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) ولقد عرف السقاف أن الأدب الخلاّب، والشعر الجذّاب، أرفع مزايا العرب أمة اللفظ الساحر.