لا زلت أَغْترفُ من مَعين كِتاب الدكتور علي عبدالحميد عيسى (التَّحليل البلاغي بين النَّظريِّة والتَّطبيق)؛ وفي هذه الوقفة سأحاول أنْ أستجلي ما يُسمَّى ب"التَّناسب الَّلفظي والمعنوي بين المفردات"، ومعنى ذلك أنْ تُوضعَ الألفاظ في النَّظم لمراعاة لفظها وجَرْسها، حيث ترى تتابع الألفاظ في النَّظم للدِّلالة على غرضٍ يُقْصده المتكلِّم. ولتكون البداية مع بيت الأعشى حينما عَمِدَ إلى التِّكرار حتَّى جاء البيت هكذا: وقدْ غَدَوتُ إلى الحَانوت يتْبَعني شاوٍ مُشلٍ شَلولٍ شَلْشَل شَولِ ثم؛ لك أنْ تتأمَّل كيف صوَّر الأعشى حديث السَّكارى المتخبِّط المتعثِّر المختلط!، وكيف أَفَادتْ هذه الموسيقى المتتابعة حكاية مشيتهم على غير هدىً واستقامة وهم إلى الحانوت غادون! ثمَّ انظر كيف راعى المتنبي التَّناسب اللَّفظي، فآثر الكلمات الدَّالة على التَّردد والتَّكرار، حيث يتكرَّر حرف الرَّاء في قوله: ومَنْ عرف الأيام معرفتي بها وبالنَّاس روَّى رمحه غير واهمِ حيث تجد الَّتناسب اللَّفظي هنا مرتبطاً بالعاطفة التي يحملها البيت عن الحقد، والانتقام، والقسْوة والتَّشفي. وإذا عرجنا إلى النَّظم العالي فإنِّنا نجد القرآن الكريم يُراعي هذا الجانب في إبراز التَّناسب الَّلفظي؛ ألا ترى قوله تعالى: (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)، كيف أَتى سبحانه بأغرب ألفاظ القسم بالنَّسبة إلى أخواتها (تالله)، فإنَّ (والله) و(بالله) أكثر استعمالاً وأعرف عند الكافَّة من (تالله)؛ لمَّا كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصِّيغ التي في بابه، فإنَّ كان وأخواتها أكثر استعمالاً من: "تفتوأ" وأعرف عند الكافَّة، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك وهي لفظة (الحرض). وتزاحم الكلمات القريبة –هنا- يلائم مقصودهم من نسيان سيدنا يعقوب –عليه السَّلام- ولده، وليس في مخالفة المألوف أدخل من هذا. ثمَّ؛ ألا ترى كيف تم اختيار: (فَزَع) في سورة النَّمل في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ)، لموافقتها لقوله: (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)، بينما آثر: (صَعَق) في الزُّمر في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ)، موافقةً لقوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)؛ لأنَّ معناه "الصعق" الموت. أمَّا التَّناسب المعنوي فمبني على أن يكون اللَّفظ ملائماً للمراد منه، فالسَّخيف للسِّخيف والخفيف للخفيف، فلكلّ ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللَّفظ، ولكلِ نوعٍ من المعاني نوعٌ من الأسماء. ألا ترى كيف آثر الحديث القرآني (ضيزى) مع غرابتها وبعدها عن استحسان الأذن, وكونها دالة على معنىً فوقَ الجور والظٌّلم؛ وذلك في قوله تعالى( تلكَ إذًا قسْمة ضيزى)؛ إذاً المراد الدِّلالة على قبح قسمتهم تلك فدلَّ بها اللَّفظ على ذاك.