أصبحت أجهزةُ الاتصال الذكية بالفعل خيرَ جليسٍ للمرء، في كل مكان وفي كل زمان، في شغله وفراغه، وفي غدوته وروحته، واقتحمت عليه خلوته حتى وقفت بينه وبين نفسه، لتغرقه بسيل هادر من الرسائل المتنوعة، والتي تتجدد وتتكاثر قبل أن يرتد إليه طرفه..!. وبينما كان استخدام هذه الوسائل حكرًا على فئة الشباب الميَّالين بطبعهم إلى التقنية وتطورها، أضحى هذا التواصل اليوم متاحًا للناس بكل فئاتهم وأعمارهم، لسهولة استخدامه وتقريبه بين الناس، وأوشك أن يكون حاجةً للإنسان ترقى عن حدِّ مجرَّد الرفاهية والترف. وبينما تمسك بهذا الجهاز الصغير بين يديك، تصلك عبره العديد والعديد من الرسائل في برامج الاتصال والشبكات الاجتماعية المختلفة، من خبر عاجل، أو تحليل عميق، أو رصد لظاهرة، أو تحذير من واقعة، أو طرفة ساخرة، أو فائدة نافعة، نصًا كانت أو بوسائط إعلامية بالصوت والصورة، وقد تبدو هذه الرسائل في مجملها عشوائية لا رابط يجمعها، لكن يمكن بشيء من النظر والتأمل أن ترصد ملامح معينة فيها وخصائص تميزها. إن هذه الرسائل -في مجموعها ووفق ميول المرسل- قد تشبه في فحواها العام الاستطلاع الجماعي للرأي، أو النتائج لدراسة ميدانية شاملة، تنبئك عن الحالة النفسية والاجتماعية التي يمر بها الجمهور، ومدى ترتيب قضاياه في سلم أولوياته، ومكانة أي حدث ما في قائمة اهتماماته. إضافة إلى أن لهذه الرسائل آثارًا كبيرة وعميقة، وذلك حين تقوم بدور التعليم المستمر والتوجيه شبه المباشر للمجتمع، وبشتى فئاته العمرية، فهي تؤسس له رأيًا حول مفهوم اجتماعي أو سياسي أو ديني، وتبني له موقفًا تجاهه، وعلى الأقل تحدد له الانطباع الأول من القضايا النازلة. ولخطورة هذا الدور واتساع الشريحة المتأثرة به، ومع كثرة عمليات النسخ وإعادة الإرسال والانتشار، كان على المرء أن يفعِّل في عقله وذائقته المرشِّحات التي ينبغي عرض هذه الرسائل عليها، فيتفحصها ويمعن النظر فيها، قبل أن يقرر مشاركة الناس بها، أو يطويها بصمت، أو يرد على من أرسلها بتنويه أو تصحيح، إذ إن من يعيد الإرسال في هذه الوسائل هو كالكاتب تقريبًا، في موافقته على المحتوى ومشاركة غيره به. كما يمكن بالنظر إلى محتوى هذه الرسائل التعرف على حاجات الناس واهتماماتهم، وبالتالي تطوير الجهود التوعوية والتثقيفية، وكتابتها بذات الأسلوب الدارج في الرسائل ببساطته واختصاره، ونشره بين الناس، إضافة إلى غرس المبادئ الراقية والقيم الجميلة، والتحفيز لنشاطات جيدة كالإعلان عن الدورات والجهود التطوعية والهوايات النافعة ونحوها. والحقيقة أن المستوى العام للرسائل التي يتناقلها مجتمعنا ما زال دون المرضي، ويتخلله الكثير من الشائعات أو المواد الدينية الضعيفة، أو الطرائف الاجتماعية التي تصنع -بشعور أو بدونه- نفسية ساخطة على قيم الزواج والعلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة ونحو ذلك، ولم يعد المستوى التعليمي للشخص المرسل يحدد جودة وموثوقية ما يرسله دائمًا. لكن على صعيد الناقد لهذا الأمر، فإنه لا يسعه ولا يحسن به الجلوس في مقاعد المتفرجين، والتلقي بتذمر وتسخط، والإغراق في المثالية المفرطة التي تترفع عن سواد الناس ومخالطتهم، بل الأجدر في حقه أن يساهم في التمحيص والنقد، والتنويه والمراجعة، والمبادرة في اختيار المواد التثقيفية الراقية ونشرها بين الناس. وإن الناس اليوم هم في غمرة الاهتمام والانشغال بهذه التقنية، وحتمًا سيأتي اليوم الذي تتطور فيه فيعرضون عنها إلى شيء غيرها، لكنهم سيستمرون في هذا الهوس بالتقنية لمدة طويلة آتية، فكانت الفرصة لك مواتية -إذا كنت تعد نفسك من نخبة متميزة علميًا وثقافيًا- في التأثير والنفع والمشاركة.