الحمد لله وبعد،، إذا أخذت تتصفح (مفكرة المهام) الصغيرة أمامك، أو استخرجت من درج مكتبك أوراقًا عتيقة كنت قد رسمت فيها لنفسك (خططًا) علمية ودعوية، أو حتى مهنية، سيثور مع غبار هذه الأوراق شيء من الحزن وستشعر أنك ما زلت في أدنى الوادي، بينما طموحاتك وأمنياتك وأحلامك مازالت هي الأخرى تعانق السحاب! وليس إلى وصلها سبيل بعد. فكيف إذا حرث المرء ذهنه وتذكر طموحًا أجمل من هذه الطموحات كلها، كطموح المرء أن يرافق محمدًا –صلى الله عليه وسلم- في قصور الفردوس، فيعيش مستقبله السرمدي مع تلك الكوكبة الراقية.. ما السبب يا ترى أن تلك الأحلام والخطط الجميلة، ركضت فوقها السنوات بحوافرها، حتى بهت حبرها؛ ولم تتحقق بعد؟ الحقيقة أن تفسير الإخفاق، وتعثر الخطط والطموحات، له عوامل كثيرة، دلت على بعضها النصوص الشرعية، ودلت على بعضها الخبرة البشرية الهائلة اليوم في علوم الإدارة والتخطيط والنجاح، وخصوصًا المعرفة الإدارية المبرهنة تجريبيًّا/إمبيريقيًّا.. ولكن ثمة عاملٌ له في نفسي حفاوةٌ خاصة، عامل يفسر كثيرًا من فشل الطموحات والأحلام.. هذا العامل بكل اختصار: هو أن الخطط فوق الصخور والأرجل ما زالت ناعمة ما حفيت بعد.. مازال في كثير من النفوس وهم مطمور أنه يمكن أن يبلغ المرء المجد وهو لم يكابد المشاق ويلعق الصبِر.. لقد ركَّب الله في هذه الحياة أن (معالي الأمور) التي نص عليها القرآن، كالرسوخ في العلم، وإظهار الهدى ودين الحق على الدين كله، والتمكين في الأرض، وإصلاح الأمة، ونحوها من المطالب الكبرى لا تحصل للمرء وهو مستكملٌ راحته وطعامه وشرابه ونومه وأوقات استرخائه.. هذه حقيقة دلَّ عليها الشرع وصرخت بها تجارب الحياة.. إذا كان المرء ينام حتى تُجهره أشعة الحمرة في عينيه، ويبسط خوان الطعام كلما اشتهى، ويخصص الأوقات الطويلة للقهوة والشاي والعصائر والفطائر، ولا يسمح لنفسه بأن تتنازل عن أي فرصة فسحة أو مسامرات مع أصحابه، ولا يستطيع كبح جماح تصفح الانترنت أن يسرق ساعاته، إذا كان المرء كذلك .. ومازال يرجو أن تتحقق يومًا ما خططه العلمية والدعوية والإصلاحية فمثل هذا الشخص قد استأصل عقله، وزرع بدلًا منه مصباح علاء الدين! معالي الأمور، والطموحات الكبرى، في العلم والتعليم والتأليف والإصلاح والتغيير والنهضة بالأمة؛ لا تكشف وجهها لك، حتى تمسح العرق عن جبينك بيدٍ ترتعش من العناء. كنت أتحدث مرةً مع أحد أقراني الناشطين في ميدان (التربية الدعوية)، فقال لي: ما وجهة نظرك في أكبر مشكلة تهدد المحاضن التربوية مع هذه المتغيرات والتحديات الفكرية الجديدة؟ فقلت له بقناعة تحفر أخاديدها في عقلي: صدقني يا أبا فلان، دع عنك كل هذه الانحرافات الفكرية، فليست بشيء، أخطر مشكلة تهدد التربية الدعوية (نقص الجدية). في بيئةٍ يغلب عليها ضجيج اللهو وخفة المرح وقهقهات الفكاهة .. أتُراها يمكن أن تنتج مُسنَدًا أو مدونةً أو مَعْلَمةً أو معجمًا؟! منطق الحياة يأبى ذلك.. والعلم خلقه الله ثمينًا لا يُجلب في الأسواق المخفضة.. سل من شئت من أهل العلم المبدعين، ونقِّب في السيرة الذاتية لمن يأسرك تدفقه بالعلوم.. وستجد في كل هذه الشخصيات أن المتضرر الأكبر في حياتهم هو النوم والطعام والشراب والترفيه.. خططنا في شواهق الجبال .. ومازالت أقدامنا غضة طرية! بل .. ونتوهم أنه في يومٍ من الأيام ستهبط النتائج بلا مقدمات.. خذ مثلًا .. ما أكثر ما تجد عند طلاب العلم والباحثين (مسوَّدة كتاب أو مؤلَّف) لم يتجاوز تقسيم الموضوع والعناصر، وبعض الشواهد والنصوص والملاحظات المهمة، وتسري عليه السنون، تزاور الشمس عن يمينه وشماله.. ولم ير النور بعد، ولا أظنه سيراها .. طالما أن فضول النوم، وفضول الطعام والشراب، وفضول الترفيه، وفضول الخلطة، وفضول الحديث والكلام، وفضول النظر، قد استكملت أوقاتها وأخذت نصيبها غير منقوص.. وهكذا تجد في عزم كثير من الناس شُعبًا من الخير والإنجاز والإنتاج.. لكنها لم تتجاوز بعد مرحلة (المشروع).. بل خذ أمرًا من شؤون الدنيا ذاتها .. ما أكثر ما تجد شابًّا يحدث نفسه، وأهله، وأصدقاءه؛ عن عزمه على البدء بمشروع تجاري في غضون "الأيام القادمة".. ومع ذلك تمضي السنوات ومازالت هذه "الأيام القادمة" التي يحدثك عنها لم تأت بعد! لأنه لم يستطع التخلي عن حصص الترفيه والراحة والسهرات من برنامجه اليومي! لما كان الإمام مسلم بن الحجاج يصنف كتابه "الصحيح" الذي هو أحد مفاخر هذه الأمة، وبلغ -رحمه الله- أحاديث الصلاة، وبلغ منها تحديدًا أحاديث مواقيت الصلاة، جاء لحديث عبد الله بن عمرو المشهور في تحديد أوقات الصلاة، وكان هذا الحديث جاء بروايات متفرعة متعددة، فرتبها ترتيبًا حسنًا استوعب اختلاف الطرق فيها عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو، فلما رأى رحمه الله صنيعه هذا أراد أن يوصل رسالة لقارئ كتابه أن هذه النتيجة الحديثية التي توصل إليها في حديث عبد الله بن عمرو لم تأت إلا بالعناء المضني، فأخرج بعدها أثرًا عن الإمام الحافظ يحيى بن أبي كثير (ت129ه) يقول فيه: (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" )[صحيح مسلم:612]. وموطن العجب هاهنا أن الإمام مسلم لا يخرج في كتابه إلا أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا شرطه في الكتاب من حيث الأصل، فكيف روى هذا الأثر عن إمام من صغار التابعين، يتحدث فيه عن التعب في العلم، ووضعه بين أحاديث الصلاة؟ يقول القاضي عياض (ت 544ه) في كتابه إكمال المعلم: (فكثيرٌ من يسأل عن ذكره هذا الخبر فى هذا الموضع وليس منه، ولا هو من حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- ولا من شرط الكتاب ، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلمًا رحمه الله أعجبه ما ذكر فى الباب، وعرف مقدار ما تعب فى تحصيله وجمعه من ذلك، فأدخل بينها هذا الخبر تنبيهًا على هذا، وأنه لم يحصِّل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب فى الطلب، وهو بيِّن، والله أعلم)[القاضي عياض، إكمال المعلم: 2/577]. واضح جدًّا أن هذه العبارة التي قالها الإمام يحيى بن أبي كثير: (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها كانت ذات وقع في نفس الإمام مسلم، وكأنه كان يستحضرها بشكل خاص، فالعبارات التي تهيج النفس على الجلد والدأب والمثابرة في العلم كثيرة، لكنه اختار من بين هذه النصوص عبارة الإمام يحيى بن أبي كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) لأن لها في نفسه أثرًا أقرب إلى روحه. ومن تأمل في ضخامة العلم، وقصر العمر، وكثرة متطلبات الحياة؛ أدرك حقًا أن عبارة الإمام يحيى بن كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم)أنها: لم تخرج من طرف الذهن.. ولم تكتب بحبر الأدب.. وإنما حفرت حروفها بإزميل التجارب.. ما أكثر ما رأيتُ عالمًا شابًّا بزَّ أقرانه يتدفق بالأسانيد والمسائل، أو رأيت عملًا علميًّا رصينًا صار أصلًا في بابه .. إلا قلت في نفسي: رحم الله يحيى بن أبي كثير حين قال (لا يستطاع العلم براحة الجسم). وهذا التعب الذي يجب تحمله ومكابدته لا يختص بمطلب دون مطلب، بل هو عام في (الكمالات الإنسانية) كلها، كما يقول ابن القيم (الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب)[ابن القيم، مفتاح دار السعادة، 2/895، طبعة مجمع الفقه]. وأعظم المتعبين ثمرةً أولئك الذين أنفقوا تعبهم باتجاه المستقبل الأبدي، وقد قال ابن القيم رحمه الله (هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب)[ابن القيم، بدائع الفوائد، 3/1187، طبعة مجمع الفقه].