كثيرون هم أولئك الذين تحدثوا عن فلسفة الجمال في الطبيعة والفن؛ فحاولوا أن يقفوا على معناه، ويستكشفوا أسراره، ويستنطقوا نماذجه التي طربت لها النفوس، وانجذبت لها القلوب، والشاعر المبدع في الفن -لا النّاظم الموظف- كالمرآة الوضئية في الطبيعة؛ هو من النماذج الجمالية الراقية التي يتفرس فيها المعجبون؛ فتطرب لمرآهم الأفئدة، وتستسلم صاغرة لمواهبهم الآسرة، وهكذا؛ فإنّ الجمالَ والانسيابية والطّلاقة والقوة هي ما يفتن القارئ الذي يطالع شعر (إدريس جمّاع) ذلك الشاعر السوداني الكبير الذي ظلم حيًّا وميتًا؛ ظَلَمَهُ حسّه المُرْهَف وقلبه الفياض بالمشاعر الجميلة والخصال الطيبة، فكان من يجهله يضحك مِنه، ويسخر من مثاليته ورقة عواطفه. الفنون جنون: من ينظر بغير عين الفن؛ لا يبصر ما يبصره غيره، وقد قيل: إن الفنون جنون، وكم انخدع الناس في أهل الفنّ فظنوا المجنون عاقلًا نبيهًا، وحسبوا العاقل مخبولًا سفيهًا، وما دروا أن الذَّكاء في الفنّ له خصائصه ومعالمه، ومن لا يدرك ذلك فقد أخطأ ووقع فيما لا يحمد عقباه، فشاعرنا إدريس جماع نال من الأذى ما جعله يضطرب ويفقد صوابه ويقضي من عمره أيامًا وليالي في مصحة نفسية، فقد عاش قصة حبّ فاشلة، أفقدته صوابه وطيرت لبه، فهام في الأرض، وسار في شوارع مدينته تائهًا؛ ولعل إدريس كان ينقل لنا طرفًا من هذه التجربة المؤلمة؛ حين يقول: في رَبيعِ الحُبِّ كُنَّا نَتَسَاقَى ونُغَنِّى نَتَنَاجَى ونُنَاجِي الطَّيرَ مِنْ غُصْنٍ لِغُصْنِ ثُمَّ ضَاعَ الأمسُ مِنِّي وانْطَوَتْ بِالقَلْبِ حَسْرَة الشعر والإنسان: حار النقاد والأدباء والشعراء في تفسير ظاهرة الشعر تفسيرًا حاسمًا والإتيان بتعريف جامع مانع، يصطلح عليه الناس ويركنون إليه؛ ذلك أن الشعر وليد النفس الإنسانية ذاتها، تلك النفس التي حار العلماء أيضًا في فهم غموضها وتفسير ظواهرها تفسيرًا قاطعًا على الرغم من كثرة النظريات والدراسات، وقد أسهم إدريس جماع في تعميق هذا الغموض حين وضع تصوره الخاص للشعر من خلال لوحته الرائعة عن الشاعر، وهي اللوحة التي نظر فيها إدريس جماع إلى نفسه؛ فقال: خُلِقَتْ طِينَةُ الأَسَى فَغَشَتْهَا ثُمَّ صَاحَ القَضَاءُ كُونِي فَكَانَتْ نَارُ وَجْدٍ فَأصْبَحَتْ صَلْصَالا طِينَةُ البؤسِ شَاعِرًَا مثَّالا عاشق الجمال: كان الشاعر أسيرًا للجمال، له فيه نظرته الخاصة، وتعبيراته المميزة، جعلته يبدع أحلى القصائد التي تغنى بها الرائح والغادي من أبناء وادي النيل، وحظيت بنصيب وافر من الشهرة؛ منها رائعته التي يقول فيها: أَعَلى الجَمَالِ تَغَارُ مِنَّا؟! مَاذَا عَليكَ إذَا نَظَرْنَا؟! هِيَ نَظْرَةٌ تُنْسِي الوقَارَ وتُسْعِدُ الرُّوحَ المُعَنَّى * الطبيعة الآسرة: الشاعر الذي يبحث عن الجمال يتأثر بكل مكان يمر به، وكل منظر تقع عليه عيناه، ومن هنا لم يكن غريبًا أن نجد للمكان أثرًا بارزًا في شعر ابن النيل، الذي عاش في السودان وتعلم في مصر وهام على وجهه بين جنبات النيل وفي واديه، وتنقل بين مدنه وقراه، وقد امتلأت نفسه وعينه من جمال الحياة وجمال الطبيعة، وهذه قصيدته رحلة النيل التي هي واحدة من أروع قصائده؛ وفيها يقول: النِّيلُ مِن نَشْوةِ الصَّهْبَاءِ سَلْسَلُهُ وسَاكِنُو النّيلِ سُمَّارٌ ونُدْمَانُ وخَفْقَةُ الموجِ أشجانٌ تُجَاوبُها منَ القلوبِ التفاتاتٌ وأشْجانُ ألحان وطنية: ارتبط الوجدان السوداني بشاعرية (إدريس جماع)، فكانت قصائده تغنى في المحافل وتتلى في المنتديات؛ وقام المطربون بغناء بعض قصائده العذبة الندية؛ غير أن وطنيته قد ألهبت حماس المواطنين من خلال أشعاره الرائعة التي تحدثت عن المقاومة؛ كقصيدته التي مطلعها: أُمَّةٌ لِلمَجْدِ والمَجْدُ لَها وثَبَتْ تُنْشِدُ مُسْتَقْبَلَها وفيها يقول: أيّهَا الحَادِي انْطَلِقْ واْصْعَدْ بِنَا وَتَخَيّر فِي الذُّرَا أطْوَلَهَا نَحْنٌ قَومٌ لَيسَ يُرْضَي هَمَّهُمْ أنْ يَنَالوا في العُلا أسْهَلَهَا وكانت قصيدته (من سعير الكفاح) ينشدها الخطباء والثوار؛ وفيها يقول: يَظُنُّ العَسْفَ يُورِثُنَا الضّياعَا فَلا واللهِ لنْ يَجِدَ انْصِياعَا ولا يُوهِي عَزَائِمَنَا وَلَكِنْ يَزِيدُ عَزيمةَ الحرِّ انْدِفَاعَا سَنَأخُذُ حَقَّنَا مَهْمَا تَعَالَوا وإنْ نَصَبُوا المدَافِعَ والقِلاعَا طَغَى فَأعَدَّ للأحْرَارِ سِجْنًَا وَصَيَّرَ أرْضَنَا سِجْنًَا مُشَاعَا هُمَا سِجْنَانِ يَتَّفِقَانِ مَعْنَىً وَيَخْتَلِفَانِ ضِيقًَا واتِّسَاعَا ولجماع ديوان شعر وحيد وهو مجموعته الشعرية التي أعيدت طباعته بعد وفاته واسمه (لحظات باقية)، جمعها بعض أصدقائه وأقاربه، لأنه لم يجمع أشعاره بنفسه لظروف مرضه، وقد فقد منه الكثير لذلك، وعلى الرغم من المكانة الأدبية الرفيعة التي حظي بها شعر إدريس جماع فإنه لم يحظ في حياته أو بعد مماته بمكانته اللائقة على الرغم من أنه يمثل حالة إبداعية فريدة، فلم يلتفت له من الدارسين إلا القليل، من أمثلة الباحث محمد حجاز مدثر الذي نشر كتابه "إدريس جماع: حياته وشعره"، ولقد طارد البؤس "إدريس جماع" حيًا وميتًا؛ حتى أصبح الرائح والغادي ينشد له أشهر أبيات البؤس: إنَّ حَظّي كدقيقِ فوقَ شَوكِ نَثَرُوهْ ثمَّ قَالوا لحفَاةٍ يومَ رِيحٍ: اجمَعُوه صَعُبَ الأمرُ عليهمْ، ثمَّ قَالوا: أتْرُكُوه إنَّ مَنْ أشْقَاهُ رَبّى؛ كيفَ أنْتُمْ تُسْعِدُوه؟! وقد سارت أبياته هذه مسير النار في الهشيم حتى لم يعد يعلم الناس من هو صاحبها!! فهل آن الأوان لأن نعيد اكتشاف هذا الشاعر العظيم الذي يصفه محبوه ب(قيثارة الحزن الأبدي)؟!.