حين كنتُ صغيرًا عرضت لنا مدرستنا الابتدائية بجدة فيلمًا سينمائيًّا عن الطيران، وحقائق علمية فيزيائية أذهلت عقلي الصغير، فتعلّق قلبي بالفيزياء والفضاء منذ ذلك الوقت، وكان همّي كيف أطير، لكنْ نشأ في عقلي الباطن ما يشبهُ العقدةَ من الطائرات، فكثيرًا ما حلمت بتحطّم طائرات أكون أحدَ ركابِها، وفي كلِّ مرةٍ أستيقظُ من نومي فَزِعًا مرعوبًا، وأنظرُ حولي بحثًا عن جثتي بين حطام الطائرة، فينتابني فرحٌ غامرٌ حين أكتشفُ أنني كنتُ أحلم.. لكنّي حين كبرتُ تغلّبتُ على خوفي الطفولي، وأحببتُ السفرَ بالطائرة، ولعلّ خوفي تبدّل بسببِ قراءاتي عن الفيزياء، والفلك، والزمن، فقد قرأتُ لآينشتاين، ومصطفى محمود، وصبري الدمرداش، وقرأت لراشد المبارك (هذا الكون: ماذا نعرف عنه؟)، وهو كتابٌ وجيزٌ سهلُ التناول ممتعٌ لهواة الفلك، والكونيّات، وتعرّفتُ على الثقوبِ السوداء المرعبةِ.. فما الثقوبُ السوداءُ؟ أقول باختصار: الثقب الأسود هو حطامٌ مكثفٌ لنجمٍ هائلٍ، أكبر من شمسنا بمئات المرّات.. ينهارُ النجمُ بعد انفجاره، وينسحقُ باتّجاه نواته، كعمارة تسقط وتنسحق، ويكون انهياره من جميع الجهات منجذبًا نحو المركز، فيتحوّل إلى جرمٍ صغيرٍ، أو قزمٍ أبيض شديدِ اللمعان، فإن كان الانسحاقُ أكبر تحوّل إلى جرمٍ أصغر شديدِ الكثافة، هائلِ الجاذبية، فلا يفلتُ من جاذبيته شيءٌ أبدًا، حتى الضوء، لأنه يبتلعُ ضوءه، ولذا لا يُرى أبدًا؛ لأنه لا يخرجُ منه أيُّ شيءٍ مطلقًا، وعلى الرغم من صغره، فإنه قادر على ابتلاع أي نجم أو كوكب يمر بالقرب منه، ومجرتنا درب التبانة، مليئة بالثقوب السوداء، وهي تبتلعُ النجومَ والكواكبَ، وقد خلقها الله للتوازن الكوني.. نجومٌ تولد، ونجومٌ تبتلعها وحوشُ دربِ التبانة (الثقوب السوداء). ومن إعجازِ القرآن أن أشار إلى تلك الثقوب السوداء في سورة التكوير، في الآية 15، 16 في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، فقد ذكر بعضُ المفسرين أن الخُنَّسَ الجوارى الكُنّس هي الثقوب السوداء، تجري في المجرة بقدرة الله، وتكنس كل ما تصادفه في طريقها من نجوم وكواكب ميتة، لأنها تتميز بقوة جاذبية هائلة تعمل مثل مكنسة كونية لا تُرى، تتحرك بأمر الله، وتبتلعُ كلَّ ما تصادفه في طريقها، حتى الضوء لا يستطيع الهروب منها. ومن إعجاز القرآن أنه اختصر خصائص الثقوب السوداء في ثلاث كلمات فحسب: (الخُنَّس/ الجوَاري/ الكُنَّس): 1- الخُنَّسِ إشارة إلى اختفاء تلك الثقوب، وعدم رؤيتها، وهذا ما يعبّر عنه العلماء بكلمة invisible، أي غير مرئي. 2- الجواري: إشارة إلى أنها تجري وتتحرك بسرعات كبيرة، وهذا ما يعبّر عنه العلماء بكلمة move، أي تتحرك. 3- الكُنَّسِ: إشارة إلى أنها تكنسُ وتبتلعُ كلَّ ما تصادفه في طريقها، وهذا ما يعبّر عنه العلماء بكلمةvacuum cleaner أي مكنسة. يبقى أن أقول: إن الثقوبَ السوداءَ في السماءِ خلقٌ من مخلوقات الله، تبتلعُ كلَّ شيءٍ حتى الضوء.. بل إنها تبتلعُ الزمنَ.. لأنَّ الزمنَ في قلب الثقب الأسود يتوقف.. فسبحان ذي الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة. (*) الجامعة الإسلامية - المدينةالمنورة تويتر: @sa2626sa [email protected]