إن الله تعالى لما أرسل نبيه محمدًا على حين فترة من الرسل كان الناس في جاهلية وشر، فهدى اللهُ الناسَ ببركةِ نبوة محمدٍ، وبما جاء من البينات والهدى هدايةً جلْتْ عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، فهو منّةٌ من الله تعالى ورحمةٌ للخلق أجمعين{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}. وأمرَ الله تعالى باتباعه فقال تعالى {قُلْ أن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}و لا طريق لنا لأن نعرف ما ينجينا من غضب الله وعقابه، ويقربنا من رضى الله وثوابه إلا بما جاء به نبينا محمدٌ، لذا قال: «فإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». وقال: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي». فلا سبيل إلى طريق الله تعالى الموصل إلى جنته إلا باتباع محمد فالله هو الذي يُشَرِّعُ الشرائعَ ويحكمُ الأحكامَ و تَلقي أحكامَ الشرعِ عن طريق هذا النبي الكريم . فالعمدة في عمل العبد اتباعه لرسول الله وإخلاصه لله تعالى، لا على كثرة العمل. وذلك هو إحسان العمل وإن قلّ، كما قال تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. قال ابن كثير: {لِيَبْلُوكُمْ} أي: ليختبركم { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} ولم يقل: أكثر عملًا بل {أَحْسَنُ عَمَلا} ولا يكون العملُ حسنًا حتى يكونَ خالصًا لله عز وجل، على شريعةِ رسول الله. فمتى فقد العملُ واحدًا من هذين الشرطين بطَلَ وحَبط. ولذا أوجب الله تعالى على الأمة الاقتداءَ بالنبي في عباداتهم وأحوالهم { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسي برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله. وهذه المتابعة للنبي تحقق للعبد عبادته. فإن التأكيد على متابعة النبي في هذه العبادة جاءت من النبي في الحجِّ في مواضع عدة، يقول فيها النبي: «لِتَأْخُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». فالعبد يقتدي بالنبي في جميع نسكه فلا سبيل لقبول هذا النُسك إلا بمتابعةِ النبي. فيطوف ويسعى كما فعل النبي، ويقف بعرفة ويبيت بمزدلفة ومنى ويرمي الجمار وينحر كما فعل. وتأمل شديد متابعةِ عمرَ بنِ الخطاب للنبي في النُّسك، فعند أحمد بسند جيد أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَكَبَّ عَلَى الرُّكْنِ -يعني- الحجرَ الأسود، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تنفعٌ ولا تَضُرٌ، وَلَوْ لَمْ أَرَ حَبِيبِي قَبَّلَكَ وَاسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ وَلَا قَبَّلْتُكَ وَ{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قال: طُفْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، قَالَ: يَعْلَى فَكُنْتُ مِمَّا يَلِي الْبَيْتَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الرُّكْنَ الْغَرْبِيَّ الَّذِي يَلِي الْأَسْوَدَ جَرَرْتُ بِيَدِهِ لِيَسْتَلِمَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَلِمُ؟، قَالَ: أَلَمْ تَطُفْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَهُ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْغَرْبِيَّيْنِ ؟، قَالَ: فَقُلْتُ لَا، قَالَ: أَفَلَيْسَ لَكَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟، قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ فَانْفُذْ عَنْكَ. فتأمل شديد متابعة الصحابةِ رضي الله عنهم للنبي في أدائهم للنُسك، وكيف رجع يعلى للحق لما بُيّنت له السُّنّةُ. وهذا هو الواجب على العبد حال النُسك أن يكون مقتديًا بالنبي في طوافه وسعيه، ووقوفه بعرفة ورميه للجمار، حتى يُقْبَل عملُه. قال ابن القيم: فإذا رُزِق العبدُ محبةَ الرسولِ، واستولت روحانيته على قلبه، جعله إمامَه ومعلمَه وأستاذَه وشيخه وقدوتَه، كما جعله الله نبيَه ورسولَه وهاديًا إليه، فيطالع سيرته ومبادئ أمره وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتَه وأخلاقَه وآدابَه، في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وعلاقته بأصحابه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه.أه فإذا وُفِّقَ العبدُ لاتباع النبي مع إخلاص العمل لله تعالى، فهذا من علامة التوفيق له،وأن الله تعالى أراد به الخير والفلاح والهِداية، كما قال تعالى {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وليبشر بثمراتٍ عظيمة لهذه المتابعة، ومن ذلك قبول العمل، قال تعالى {إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}. وحُسن العملِ أن يكون خالصًا لله تعالى موافقًا لسنة النبي . فإذا كان كذلك فقد فاز العبد بالقبول، وبالفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا هو أعظم الثواب والجزاء لمن أطاع الله ورسوله قال تعالى{وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. وقال تعالى {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. الذين فازوا بكل خير، وأمِنُوا من كل شرٍّ، في الدنيا والآخرة. وهذا بخلاف من خالف أمر النبيِّ ولم يلتزم بسنته وهديه، كما قال تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فتبين بذلك أن من أعظم معاني الحجِّ والدروس فيه أمران: الأول: إخلاص العملِ لله تعالى وحده لا شريك، وأن العبد إنما يريد بحجّه وجه الله تعالى والدار والآخرة، ولذا كان من دعاء النبي «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا، وَلاَ سُمْعَةَ». قال ابن تيمية: يجب عل الحاجّ أن يقصد بحجه وجه الله تعالى والتقرب إليه، وأن يحذَرَ أن يقصدَ حطامَ الدنيا، أو المفاخرةَ، أو حيازةَ الألقاب، أو الرياءَ، أو السمعةَ، فإن ذلك سببٌ في بطلان العمل وعدم قبوله.أه والمعني الثاني العظيم أيضًا: متابعة العبدِ للنبي، امتثالًا لقوله: «خذو عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا». فالعبد في إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه بعرفة ومبيته بمنى ومزدلفة ورميه للجمار، في كل أفعاله هذه إنما هو يقتدي بالنبي، فهي وسيلة لأن يمتثل العبدُ ذلك في حياته كلِّها. فاللهم وفقنا للحج المبرور، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ومتابعةَ نبيك محمدٍ في جميع الأمور. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين. د. عبدالله بن محمد الصامل رئيس قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية