تتشاجر الأقلام كثيرًا حول بعض الأطروحات الفكرية المعنية بتحديث عدد من المفاهيم في المجتمعات الإسلامية كالتديّن والتجديد وغيرها وعلاقة ذلك بالدين، وتختلف الآراء مع تلون أفكارها في مصداقية هذا النوع من الخطابات لا سيما لثقافتنا الإسلامية، ومدى حاجتنا إلى مثل هذه الرؤى بين مؤيد ومعارض، ومتوجس بين الأمرين. إنّ ذاكرتنا التاريخية تحتفظ بعدد من النماذج قديمًا وحديثًا لمواقف كانت مجحفة في حق بعض الشخصيات وكتبهم ك "المحلى" و"الإحياء" وغيرها، وربما ترتفع الأصوات وتشتدّ مع مؤلِف بعينه فيُمنع تراثه بالجملة بسبب أو بآخر، وقد يُستعان بالسياسي وبعض المتنفذين في ذلك! ولا أرفض المنع بإطلاق ولكن اتخاذه سياسة وخطة استراتيجية، والتستر به عن الرد والمحاجَّة هو ما يستحق المنع (في نظري)، ولا يليق ذلك بأهل المعرفة ودعاة الموضوعية في قاعات البحث العلمي! وكثيرا ما تتصدر الساحة الشرعية هذا الميدان وتُسلّط الضوء والنقد دون تمحيص على مثل هذه البحوث الفكرية والدراسات الحضارية قاصرين النظر غالبا حول سلبياتها ومصطلحاتها مع إغفال شبه تام للمضامين الايجابية التي تتوارى خلف تلك المصطلحات وما تستحقه من التأمل والتدقيق حتى في ردها وتفكيكها؛ لعدم إقناع الناس بها! والمتتبع للعقل الشرعي عن قرب يجد هيمنة الخطاب العاطفي والجماهيري عليه، وربما يَمزج الوعظ والنياح بالتحذير والتنديد على مثل تلك الدراسات، وقد يقع التأثر بذلك الخطاب مدة، لكنه ما إن يلبث حتى يضمحل ويتلاشى؛ لأنه لم يستند على أسس ثابتة، علاوة على ما قد يتخلله من التعدي وقلة الإنصاف! فالبعض مثلا يقف كثيرا عند المصطلحات كالتجديد، والحداثة، والحرية، والعصرنة وغيرها، ويُشكِّك في مَن يَستخدمها صراحة أو ضمنا، ويسعى لإسقاط المفهوم المراد لهما من قِبل الكاتب، كأنه بذلك يريد إلغاء كل ما يذكره من بعد! لكنه لو تجاوز تلك المصطلحات، وتناول بالتحليل المحايد تفاصيل عدد من الدراسات التي تُعنى بذلك الشأن، أعتقد أن الأمر حينها سيختلف؛ لأننا سنجد لا محالة كثيرا مما يطرحه بعض أولئك يحتاج للتجديد والمراجعة اختلفنا معهم أو اتفقنا، فالتجديد والحرية وغيرهما، وإن وجد استعمالهما في الآونة الأخيرة بين الكُتّاب لأهداف غير مُرضية في بعض الأحيان؛ إلا أن التوجس منهما دوما في كل سياق أمر غير محمود، كما أنه غير مبرر في أغلب الأحيان تبريرا حسنا ومقنعا. إضافة إلى أنَّ عدم الهدوء والتفصيل لمضامين تلك الدراسات الحضارية والفكرية يوجِد عند بعض القراء تشوفا لقراءتها والرجوع إليها، دون الاكتفاء بالتحذير الإجمالي أو النقد الانطباعي نحوها، فمن اعتاد على سماع ذلك التشويه النقدي غير المفصّل، ثم عاد ونظر في جزء من تلك الأطروحات بتمحيص؛ سيُشكك لا محالة في قيمة أي نقد يَنحى هذا المنحى العمومي والوعظي، وسيتهم مقاصد حامليه، ويقف عن قرب على حقيقة ضعفهم وعجزهم عن الدخول في متاهات الأقوال وأصول النظريات! ثم إنّ السعي لتجديد التديّن أيسر من السعي لتجديد الدين؛ لأن التديّن غير الدين، فالدين يعني الوحيين، والتدين ترجمة الوحيين إلى سلوك وعمل وبناء التصورات، وإمكان الخطأ واحتماله في الترجمة والفهم أكثر من غيرها، ومن أولى خطوات العدل والإنصاف التفريق بين النقد المغرِض والنقد الموجَّه للسلوك الخاطئ، وكذا الفصل بين الآراء المحتمِلة لتعدد الاجتهادات. ففحوى الخطاب أننا في ميدان البحث والتقييم بحاجة إلى التفصيل والتقسيم في الأحكام الفرعية وعدم القطع فيها، ولا يكفي في مثل هذه المسائل المنع العام لا سيما أن بعض تلك الدراسات مع مرور الزمن، وانتشار الوعي نتائجها أثبتت واقعيتها في عدد من تقريراتها وآرائها!! ثم إنه ليس من المنطقي ولا المقبول علميًّا أن نستهين بالنقد مع احتماله، ونُقلّل من شأن من يقوم به، ولا نمارسه بأنفسنا؛ فالنزعة النقدية السائدة في الدراسات الفكرية والحضارية حالة صحية وطبيعية، ووجود الخطأ في بعض تطبيقاتها لا يستوجب التضييق عليها، فكثير مما نعانيه اليوم هو من آثار غياب النقد والتكريس للنموذج الأوحد، حتى الدراسات الشرعية التي اتسم بعضها بالتجديد لم ترتق للمستوى المطلوب (مع استثناءات لا تُشكّل الرأي العام)، بل مجملها إعادة تلوين وطلاء لذات الأمثلة الفرعية دون محاولة الاستقلال في بناء نظرية معرفية تستلهم الأصول والواقع.. والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد. باحث وكاتب في الدراسات الشرعية [email protected] m_alansary1@