في كل زمان ومكان ثوابت دينية ودنيوية لا يجوز تجاوزها، ولذا رأينا كيف أن الغرب قنن تجريم إنكار الهولوكوست اليهودي المزعوم إبان أفران هتلر وحرقه لليهود في ألمانيا، وحتى لو سلمنا جدلًا بذلك فإنها ليست بهذا الحجم من التهويل والمبالغة والابتزاز الصهيوني للعالم، وممن ذكر ذلك الفرنسي روجيه جارودي، كما أن شركة تويتر رضخت للقانون الفرنسي حيث برمجت في نسختها الفرنسية منع إنكار الهولوكوست، وإذا كانت كل هذه الحصانة لأسطورة تاريخية لبضعة ملايين من اليهود في العالم اليوم، فكيف الحال فيمن أباح الاعتداء على مقدسات ثابتة لمليار وستمائة مليون مسلم يشكلون ربع البشرية اليوم، وإذا كانت الحرية مكفولة حتى فيمن يعتدي على ثوابتنا فلماذا لم تكن كذلك فيمن أنكر الهولوكوست، بل وسنهم لقوانين مكافحة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث جرموا الكثير من الحريات لصالح أمريكا ولكنهم فتحوا الباب على مصراعيه لإهانة القرآن الكريم في غوانتانامو وأفغانستان وانتهاك المساجد والأعراض في العراق واستباحة الأبرياء في باكستان واليمن وضرب السودان والصومال وكثير غيرها في سيرة العم سام حيث يبيح لنفسه الاعتداء على الآخرين في دينهم وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ثم يحرم على الآخرين مجرد النقد والاعتراض ويعده من أنواع الإرهاب والتحريض عليه. ولا يعني هذا التبرير لردود الأفعال الإسلامية على التصرفات الغربية في بلاد الخليج والعرب والإسلام، وإنما هو تفسير وبيان لمدى التناقض والكيل بمكيالين في العقلية السياسية الأمريكية وكيف أنها تنشر العدالة والحقوق والتنمية في داخل حدودها ولكن على حساب حقوق من هم خارج حدودها، فتصنع الحروب لتشغل مصانعها وتعيد ترتيب مصالحها بلا ضمير ولا أخلاق إنسانية أو قانونية. ومع معرفتنا لمستوى الشعور بالظلم تجاه السياسة الأمريكية في العالم الإسلامي التي تقوم على منطلق صهيوني صليبي مصلحي أناني إلا أن ذلك لا يبرر لنا الوقوع في ردات الفعل غير الحكيمة التي رسمها مستفز غيرتنا سواء الذي كان من قبل حيث سلمان رشدي وحماية بريطانيا له، أو رسومات الدنمارك، أو الأخيرة في أمريكا حيث الفلم المسيء لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولذا فيجب أن نجمع بين الغيرة لنبينا والدفاع عنه ونصرته وفي نفس الوقت قراءة ما وراء الحدث ودوافعه لئلا نحقق أهداف راسميه بأيدينا دون وعي. ولذا فمن السار أن نجد هذه الهبة الإسلامية عبر العالم في استنكار السكوت الأمريكي لهذا الفعل المشين وأنه لا يجوز تصنيفه في سقف الحرية وإنما لابد من جعله في سقف إثارة السلم والأمن العالميين فضلًا عن الحقوق القانونية المسلم بها دوليًا في احترام مقدسات الآخرين التي لا تسبب الاعتداء على الغير، وهذا وفقًا لمقررات الأممالمتحدة ومؤسساتها عبر العالم. ولكن مع جميع هذه الأمور، وتفهمنا لجميع الدوافع لدى الغيورين عبر العالم، إلا أن التصرفات المعتدية على أمريكا ورعاياها لا يجوز تبريرها بأي شكل من الأشكال، ومن ذلك تفجير السفارة الأمريكية في بنغازي بليبيا وقتل السفير الأمريكي مما يعد ردة فعل خاطئة بكل المقاييس، ولكن الراصد لردود الأفعال تجاه هذه العملية الإجرامية يجد صدمة كبيرة من حيث ضخامة أعداد ونوعيات المصفقين لها بشكل صريح أو تعريض، والواجب هو العدل والاعتدال والحكمة وعدم إتاحة الفرصة لنجاح خطة من رسموا هذه العملية الاستفزازية، فضلًا عن الأرواح المسلمة التي أزهقت في مسيرات ردود الأفعال، ومن المؤسف أننا وجدنا الكثير من الدعاة الإسلاميين وهم يزايدون غيرهم على الغيرة ويحيّون ردود الأفعال دون أن يوجهوا الشباب نحو الوسطية وضبط النفس، وفي بعض المجالس الخاصة قد ينقد بعض التصرفات الغوغائية التي تفسد ولا تصلح ولكنه لا يجرؤ على كتابتها في حسابه بتويتر خشية من انخفاض رصيده الجماهيري ولذا تراه يسابق الدهماء في مزيد من التحريض دون التوجيه الإيجابي واستنكار الطرق غير المشروعة الضارة بمصالح الإسلام والمسلمين، وليس هناك إلا القلة القليلة من العلماء الحكماء الذين وقفوا ضد هذا التيار وغردوا خارج سربه عبر نقدهم الشجاع لتلك الأعمال المعتدية وغير الحكيمة والتي ستجلب المفاسد والأضرار. ومما أثار استغرابي تكلف بعض المشايخ ضمن منهجية دائمة نحو ترجيح سوء الظن بالغير وذلك حينما حرم شعار (إلا رسول الله) وراح يتكلف أسوأ الدلالات لتبرير رأيه، والفقيه الحقيقي هو الذي يقول إن هناك دلالة حسنة يريدها المطلقون لهذا الشعار، ولكن له عدة معانٍ، فالسيئ غير مقصود والحسن هو المقصود، واللغة العربية فضاء واسع من الدلالات لا يمكن تحكمها ومصادرتها وعلماء البيان والبلاغة قسموا الحصر والقصر إلى حقيقي وإضافي وهنا هو من النوع الثاني، والمعنى معروف وهو بلغة العصر (خط أحمر) لا يجوز تجاوزه، والله تعالى وكتابه الكريم من باب أولى، ولا يعني هذا جواز النيل ممن هم دونه كالخلفاء الأربعة والصحابة والقرون المفضلة وعامة المسلمين بل وحتى غيرهم وقصة عمر ودرته مع القبطي وولد ابن العاص معروفة حيث حقوق الإنسان فكيف بخاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، والله هو الهادي إلى سبيل الحق والحكمة والعدل والاعتدال وبه نستعين. [email protected]