هناك قلة ممن تتحسس منهم تلمّس الإخلاص، وتحرّي الدليل، مع وفور الثقافة، وأدب المحاورة، ورزانة الموقف، وشجاعة الحسم، والإنصاف للمخالفين. إنه أحد هؤلاء القلائل الذين شهدت لهم الدنيا بذلك، إنه العالم الرباني الشيخ عمر بن سليمان الأشقر -رحمه الله- الذي وافته المنية الطيبة -إن شاء الله- يوم الجمعة المبارك في الليلة الوترية من العشر الأخيرة في شهر رمضان لهذا العام 1433ه. وقد حدثني الشيخ الجليل د. جاسم الياسين، أنه عندما سمع بمرضه قبل رمضان هبَّ سريعًا لزيارته، وأحس بدنو أجل صاحبه، رغم طلب بعض العلماء مرافقته وتأجيل سفره قليلًا، لكن الشيخ جاسم كان حدسه الإيماني أقرب، وهذا (الحدس الإيماني) لا يبعد أن يكون نورًا يقذفه الله في قلب العبد، ورحمة تجمع شوارد النفس الحزينة. وقد حدثت قصة تؤكد تأصيل هذا المعنى مع والدتي حيث آثرت أن تبقى مع إخواني بالبيت في جدة، ويذهب والدي المريض إلى الرياض بصحبتي وصحبة أخي الأكبر (محمد)، على أن نوافيها بالأخبار، وظللنا على هذا الحال عشرة أيام، وفجأة طلبت زيارة الوالد بحرص شديد، ووصلت إليه وسلمت عليه، ومكثت عنده أقل من ساعة، ثم عادت لجدة، ليتوفى والدي في اليوم التالي، وفي نفس موعد زيارتها!! ورغم هذا (الحدس الإيماني) يبقى للموت هيبته، وللساعة حكمها التي لا علم بها، ولا مردَّ لها. لقد غادر دنيانا العالم الرباني عمر الأشقر، الذي حرصتُ على تكريمه في (جائزة الشباب العالمية لخدمة العمل الإسلامي)، وكان يقدِّم رِجلًا، ويُؤخِّر أخرى، ويبطئ في الإجابة، متحريًا غاية حصوله على الجائزة، وأحقيته بالتكريم، والثناء!! حتى أنه - رحمه الله- لم يستطع كتمان ذلك، وأعلن عن سر تأخر قبوله للجائزة سنتين متواصلتين، لتصحيح النية، وإصلاح المقصد! وقد كانت كتابات الشيخ الأشقر، محل ثقة واهتمام ومدارسة كل المثقفين، وطلبة العلم، لرسوخها، وحسن سبكها، ووسطيتها.. فخَرَج كِتَابه (صفحات من أيامي) عظيمًا، وقد علَّقت عليه بأنه جاء متأخرًا، وكان الأولى ألا تحرم الأجيال مما فيه من قصص ودروس وعبر. وأن نقول: الحمد لله على إصداره، خير من العتاب على تأخره. فالعبرة في المآل باستجلاء دروسه، والعمل بعبره. وفي ظني أن كل كتب الشيخ بما فيها سلسلة (محاضرات إسلامية هادفة)، مملوءة علمًا، ووسطية. إنني على يقين أن المضيَّ في الكتابة عن النَفَس التربوي الذي ذاع عن الشيخ عمر الأشقر -رحمه الله- له أهميته، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى عمق أبحاثه الفقهية، ولمساته العلمية المميزة. لقد (رقَّى) العالم الجليل الشيخ عمر الأشقر طريقة الكتابة، وفنَّ التأليف، وأزاح عنه السطحية، والتكرار، والعجلة. رحم الله الشيخ الرباني - عمر الأشقر-، فقد كانت مجالسه، مشافهة، أو مدارسة لكتبه، تروي الروح، وترقي السلوك، وتحفظ التدين، وتصون اللسان، وتُقوّم الفكر، وتُعالج الخلل. [email protected]