واقع لا يسر * كيف تنظر لواقع الأمة اليوم، ونحن نعيش روحانية شهر رمضان المبارك؟ - واقع الأمة اليوم لا يسر، فحيثما وليت وجهك في العالم الإسلامي وجدت المصائب والمآسي تنزل بالمسلمين كالمطر، ولا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية سالم من مصيبة إما في أمنه وإما في معيشته واقتصاده، وإما حياته وصحته فهناك الفتن التي هي كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: كقطع الليل المظلم وهناك الفقر والعوز أكثر انتشاراً بين المسلمين منه فيمن سواهم. وهناك الأمراض القاتلة المستعصية بل تجد كثيراً من المسلمين حلت بهم المصيبة في دينهم بسبب الدعوات الضالة، والأفكار المضللة، التي أدخلت الشبه على كثير من المسلمين فوقعوا في حبائلها فأفسدت عليهم دينهم وعقيدتهم. وهذه أكبر المصائب التي كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة منها «اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني». ومع هذه الصورة القاتمة المؤلمة، لا يزال المؤمن مؤملاً خيراً، وراجياً من ربه أن يجعل من ذلك كله سبباً لحصول الأجر والمثوبة عنده سبحانه وتعالى إذا ألهم الإنسان الصبر والثبات على الحق، فإن الله لا يضيعه فأمر المؤمن كله خير، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً. والله يقول: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.} فأسأل الله أن يكشف هذه الغمة، وأن يرحم الأمة. ولا شك أن العاقبة للمتقين. وفي رمضان موسم التقرب إلى الله بأخص العبادات (الصيام) وأفضل الذكر (تلاوة القرآن) وجود النفوس بالصدقات، لا شك أن ذلك مما يساعد على التغلب على هذا الواقع. بلاء ونكبات المدينة: يلاحظ فضيلة الشيخ في العهود المتأخرة أنه ما يأتي شهر رمضان إلا والمسلمون يعانون من نكبة أو جرح هنا أوهناك. فما هو واجبنا تجاه هذه الأحداث والأزمات لاسيما في هذه الأيام المباركة؟ الحكمي: ابتلاء المؤمنين بالنكبات والحوادث المؤلمة سنة من سنن الله في خلقه ؛ ليرفع بها من يشاء من عباده إلى أعلى الدرجات في الجنة، ويعظم لهم الأجر، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن المؤمن يبتلى على حسب دينه، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. وأمة الإسلام مجتمعة بالنسبة لسائر الأمم لا شك أنها أحب الأمم إلى الله، وأقربهم إليه، لهذا يشتد بلاؤهم لينالوا ما وعدوا عند الله من المقام الرفيع، والتقديم على سائر الأمم. ونحن في هذا الزمان في آخر عمر الدنيا، وقريبون من زوالها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان تكثر الفتن حتى يتمنى المرء لو كان في مكان صاحب القبر الذي يمر به لشدة ما يرى ويعاني. وقد جعل بلاء هذه الأمة في آخرها. وواجب المؤمن تجاه ذلك هو الصبر، ومجاهدة النفس على تحمل ما يجد حسياً ومعنوياً، والاستعانة بالله على ذلك. مع التمسك بآداب الدين وثوابت العقيدة والشريعة، والدعوة إليها بقدر الإمكان وليس ذلك بالأمر الهين. وقد ورد أنه في آخر الزمان يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر. فليعلم المؤمن فرداً أو جماعة أنه لابد من الابتلاء والامتحان، وأن الجنة التي وعد المتقون قد حفت بالمكاره. {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}. {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وأهم الجهاد وأشده على الإنسان جهاد النفس والهوى، والشيطان الذي يدعو إلى الغواية ويوقع بين الناس. ومن أهم وسائل مواجهة هذه الفتن والأحداث، ملازمة جماعة المسلمين، وعدم التفرق، وعدم الإصغاء إلى نعيق الناعقين، ودعوات المضلين. فإن اشتبهت على الإنسان الأمور، فعليه أن يكف أذاه عن المسلمين، وأن يلجأ إلى الله وبخاصة في هذا الشهر المبارك ويدعوه بأن يرفع عن المسلمين ما يعانونه. أمور مشتبهة المدينة: هل ساهمتم في نقاش بعض المجموعات المتشددة ؟ وكيف كان ذلك؟ الحكمي: نعم لقد أسهمت إسهاماً مباشراً في نقاش بعض المجموعات، وكان ذلك بحمد الله وتوفيقه بطريقة هادئة موضوعية سمعت فيها بعض شبههم، وأجبت عليها بما يسر الله مما نظنه الحق والعدل والإنصاف، وكان لذلك أثر بالغ على بعضهم فأبدوا رضاهم وتسليمهم بما قلنا، وأسأل الله أن يهدي شبابنا، وجميع إخواننا المسلمين إلى الجادة الصحيحة وإلى الطريق المستقيم. كما أسهمت ومازلت أسهم بطريق غير مباشر في بيان ما نعتقده أنه الصواب في مسائل الخلاف، وفي الأمور المشتبهة على بعض الناس، وذلك من خلال الدروس والإجابات على بعض الاستفسارات في مختلف الوسائل. وأحمد الله أننا نلمس القبول من الكثير، وأما المكابر المعاند، فلا نملك إلا الدعاء له بالهداية، وأن يكف الله شره عن الناس. إحدى الحسنيين المدينة: انتصارات الأمة.. لماذا ارتبطت برمضان ؟ وما الكيفية في العودة إليها.؟ الحكمي: مما لا شك فيه أن لهذا الشهر الكريم أثر عظيم في تلك الانتصارات، لأن الحروب التي خاضها المسلمون ليست حروباً بقصد التوسع الجغرافي، أو الكسب المادي أو التسلط على العباد، وإظهار القوة والغلبة على الناس. لا بل كان الهدف والمقصد أجلُّ وأسمى من كل غرض دنيوي إلا أن إعلاء كلمة الله، ونشر دينه في الأرض. وحماية هذا الدين من عدوان المعتدين، وتسلط الظالمين، وردع من يريد الحيلولة دون دخول عباد الله في الدين الحق عند الله «الإسلام». وحيث كان هذا هو الهدف والمقصد، والقائم به بين إحدى الحسنيين، إما النصر لدين الله وإما الشهادة في سبيل الله، وكان المسلم في رمضان في غاية القرب من ربه تعبداً وتقرباً، ورجاء لثوابه، كان ذلك الحال للمسلم حافزاً آخر على التضحية والفداء، وعلى الصدق مع الله. ومن صدق مع الله أيده بنصره. فكانت الغلبة للمؤمنين في هذا الشهر الكريم. وفي هذا دلالة واضحة على أن المؤمن متى كان قلبه مع ربه، وعمله خالصاً لله تعالى، مبتعداً عن أطماع الدنيا، متجافياً عن الشبهات والشهوات، كان أقرب إلى النصر والتأييد والقبول. ومن هنا نجد أن طريق العودة إلى الانتصار على الأعداء – وليس بالضرورة انتصارا في حروب مباشرة – بل في جميع ميادين الصراع مع أعداء الملة والدين، فكرية، واقتصادية وغيرها. أقول إن طريق العودة إلى انتصارات المسلمين وتفوقهم على عدوهم واضح، ألا وهو سلوك منهج أولئك الأبرار الشهداء الذين صدقوا مع الله، وآثروا قربه ورضاه على ما سواه. وكانوا بحق {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود..}، وليسوا كمن جعل الجهاد وسيلة لخراب ديار المسلمين، وقتل أبنائهم، وإهلاك أموالهم وجعلوا من أنفسهم أدوات هدم وفرقة وتخريب بيد الأعداء. مناصب متعددة المدينة: معالي الشيخ تنقلتم بين القضاء والشورى والتعليم والإفتاء والتدريس الأكاديمي، أي من هذه الأماكن وجدتم فيها دورا أفضل لكم؟ ولم؟ الحكمي: أولاً – أنا لم أباشر العمل قاضياً – والحمد لله على العافية – وعملي في مجال القضاء في المجلس الأعلى مع زملائي أعضاء المجلس إنما هو إشرافي، أقرب ما يكون إلى العمل الإداري والتنظيمي، وهذا عمل مهم جداً وفيه خير كثير عند الله لمن يقوم به، لما فيه من الإسهام في تحسين مرفق القضاء، ومساعدة القضاة على القيام بالمهمة العظمى التي أنيطت بهم ألا وهي إقامة العدل والإنصاف بين الناس. أما الشورى فهي تجربة فريدة بالنسبة لي، استفدت منها كثيراً، وأرجو أن أكون مع زملائي قد حققنا بعض ما كان يؤمله فينا ولي الأمر وإخواننا وأبناؤنا المواطنون. وأما الإفتاء فهي المهمة الصعبة التي ما كنت يوماً حريصاً على خوض غمارها، وتحملها، لأنها أضخم مسؤولية عند الله، وأخطر شيء على الإنسان، كيف لا وقد هابها وأشتد وجله منها أفقه الخلق وأعظمهم مقاماً عند الله وعند الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصحابة رضوان الله عليهم. ومع هذا لم أجد بداً من تلبية رغبة ولي الأمر في مشاركة علماء أجلاء في القيام بهذه المسؤولية، وسد تلك الثغرة. ومما يخفف وطأتها أنني بصحبة أولئك الأخيار الذين بمشاركتهم نبتعد قدر الإمكان عن الخطأ والزلل. وأما التعليم والتدريس الأكاديمي، فهو مهنتي الأساسية وحرفتي الأصلية التي وجدت فيها نفسي وأجد فيها المتعة الروحية والفكرية، لأمرين: أحدهما – ما أحس به من الأثر الظاهر السريع المتمثل في استفادة الطلاب ووصولهم إلى بعض ما يبتغون من العلم والمعرفة عن طريقي مباشرة. والثاني – معايشة ذلك النتاج الفكري والعلمي الذي خلفه أفذاد الأمة في مختلف العلوم الشرعية والعربية والاجتماعية وغيرها. فالتدريس يلزمك بمصاحبة أولئك المبدعين الذين أفنوا أعمارهم في طلب العلم وتحصيله، وأودعوه مؤلفاتهم ومصنفاتهم، التي جعلت منهم نماذج حية نعيش معها وكأنها لم تفارق هذه الدنيا، يضاف إلى ذلك معايشة أفكار ورؤى المعاصرين من الباحثين والمصنفين، فما أعظم وأكثر أصدقاءك المخلصين وجلساءك النافعين أيها الأستاذ الأكاديمي. فضل رمضان المدينة: معالي الشيخ كيف نجمع بين الحديث الذي يشير إلى تفتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار وتصفيد الشياطين، فيما نرى ظهور المنكرات تتفاقم في رمضان وتزداد؟ الحكمي: هذا الحديث قد فسره أهل العلم بتفسيرات تتوافق مع ما ورد من أجله، فكما هو معلوم وظاهر من سياقه أنه جاء لبيان فضل شهر رمضان الكريم، وحث الناس على العمل الصالح فيه. ففيه بشارة للمؤمنين بأن أبواب الجنة تفتح لهم، لما يقبلون عليه من مزيد الطاعات والتقرب إلى الله بمختلف العبادات وأن أبواب النار تغلق، لابتعاد أكثر المؤمنين عن اقتراف ما كانوا يقترفونه من المعاصي. وأن الله سبحانه وتعالى يعين عباده المؤمنين في هذا الشهر الكريم على أعدائهم من مردة شايطين الجن، فلا يتسلطون عليهم تسلطهم في سائر الشهور. وقد ورد في بعض روايات الحديث أنه تسلسل فيه مردة الشياطين، أي أعتاهم وأشدهم، وهذا فيه إشارة واضحة إلى أن المقصود بيان ضعف تسلط الشياطين وليس انعدامه بالكلية. وما يشاهد من وجود المنكرات والمعاصي في رمضان يقابله أضعاف الأعمال الصالحة التي يقبل عليها المؤمنون، فالعمل الصالح بلا شك أكبر وأكثر في هذا الشهر منه في غيره، والجنة أقرب إلى المؤمنين والنار أبعد ما تكون عنهم.