ليس سرًا أن العرب في الجاهلية كانت تستقبح البنات وترى فيهن عارًا وخزيًا يستحق الوأد، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يكن شائعًا عند جميع القبائل، إلا أن ما يجمعون عليه قاطبة هو الاستهانة بالمرأة، والظلم الكبير لها. وحين أشرقت شمس الإسلام على قريش؛ بدد النور ظلام الجاهلية، وأعاد للمرأة كيانها المعنوي وتقديرها المطلوب إما وزوجة وابنة كريمة، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم، أروع الأمثلة على تقدير المرأة في حياته الخاصة، وتعامله مع النساء عامة! تمتلئ كتب السيرة بالشواهد على هذا، ولست بصدد الحصر ولا التمثيل لكني أختار قصة واحدة تستحق أن تفرد في مجلدات! وأن تقف النساء أمامها شامخات الرؤوس لما فيها من إكرام للمرأة ووأد لإهانة الجاهليين لها. ورد في السنة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عمرو بن العاص : يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، فقلت : فمِن الرجال ؟ قال : أبوها. (أخرجه البخاري ) هذا الخبر النبوي الكريم في حد ذاته شهادة إسلامية إنسانية عالية المستوى للمرأة، نبي كريم وعظيم مهاب، تدين له العرب قاطبة، يأتي إليه واحد من دهاتها وعظمائها في الجاهلية، وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه متسائلا عن أحب الناس إليه، بذهن رجل عربي ينتظر أن يكون الجواب عن فارس مهاب أو مقاتل شجاع أو خطيب مفوه! يلتمس في سيرته مواصفات محبة النبي صلى الله عليه وسلم للرجال، فيأتي الجواب على غير المتوقع: عائشة! جاء في بعض روايات الحديث أنه رضي الله عنه قال بعد جواب النبي صلى الله عليه وسلم: إنما قصدت الرجال! وفي رواية: إنما سألت عن الرجال، وفي الأثر المشهور قال: فمن الرجال؟ مما يدل على أنه لم يتوقع هذا الجواب! ولعله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل رسالة ما، من خلال هذا الجواب، بدليل أنه حين أدير السؤال إلى الرجال، لم يعط اسمًا لرجل كما هو منتظر، بل رده إلى المرأة مرة أخرى وإلى الحبيبة نفسها لتكون المرأة محور الجواب ابتداءً وانتهاءً فقال صلى الله عليه وسلم: أبوها! أليس أباها هو أبو بكر، الصديق، الصاحب في الغار، الصاحب في الهجرة؟ هل كل هذه الأوصاف لا تصلح لأن تكون جواباً؟ كلا بل هي أعظم جواب، لكنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل رسالة تكريمية لعائشة رضي الله عنها من خلال هذا الجواب غير المتوقع من صحابي اشتهر بالفراسة والذكاء، لكنه ليس أعظم من ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعاد الجواب بصيغة لا تمحو جواب السؤال الأول! إن هذه التأملات ترفع من حس الوعي الإسلامي بقيمة المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم، القيمة التي تعجز مواثيق الحضارات المعاصرة أن ترسم لها حدودًا، وتأبى في الوقت نفسه أن تهان المرأة باسم تكريمها زورًا وبهتانًا.