بكينا بحرقة، وبكاه الأدب واللغة، وبكته المدينةالمنورة، المدر والحجر ومدارسها ومعالمها وطلابها ومثقفوها، بكاه كلّ شىء، وقد مات قبل أن يموت حزنًا على اللغة وضياعها بين أهلها. كم كان متألمًا يشكو إليَّ حزنه وأسفه لما يظنه ضياعًا للغة الضاد، وقد فقدته نصيرًا وباحثًا متألقًا لا يشق له غبار فيها. يحلو لي أن أسميه إمامها، وكنت أُداعبه فأقول له «أنت الكسائي، كسائي وقتنا، إلا أنّ الكسائي تعلّم اللغة كبيرًا، ونشأت صغيرًا بحبها وعشقها ونصرتها.. لا أنساك وأنت تهزأ ممن لا يفرّق بين الظاء والضاد حتّى في تلاوة القرآن وفي الصلاة، ولا يفرّق بين الزّاي والذال، انتصارً للغة الجميلة، لغة القرآن الكريم، وكم كان حريصًا على هدم العامية انتصارًا للغة بغير عداء للعامية وما تحمله من معانٍ وأساطير. خمسون عامًا قضيناها معًا، في كل صباح جمعة نذهب للمسجد النبوي الشريف لأداء صلاة الجمعة، ونعود سوية إلى مزرعتي حتّى صلاة العصر، نقرأ شعره المولود قبل أن ينشر في الدواوين، فأجد فيه روح شاعر كبير ثائر كالبركان، لا يهدأ ولا يلين غيرة على الأمة وآدابها وثقافتها ولغتها، ونخرج بقناعة راسخة بأنها محفوظة بحفظ كتاب الله التي وسعته لفظًا وغاية، ولا يمكن أن تَقْصُر عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات. لا أنساه وهو يحمل مشعل ندوتنا «ندوة الدكتور الدعيس» منذ عام 1393ه، ويزكي جذوتها مديرًا لها، وفاعلاً فيها، وقد قدّم لها الكثير من أمسياته الشعرية ومحاضراته الأدبية، وقد حمل جلها هموم اللغة والأمة والوطن وشيئًا من الحب والغزل والتندر. وأنا شخصيًا أخصّ نفسي فخرًا بأنّ كثيرًا من أفكاره وآرائه المتجددة والناطقة بحرف واضح في النقد والأدب والتجديد وانطلقت وصرّح بها من خلال ذلك المنتدى الذي ضمّ نخبة من أمثاله في العلم والأدب والنقد واللغة. ومن لطيف ما قدمه في المنتدى وسجّله في بعض دواوينه توظيفه للغة القرآن وحروفه وألفاظه في شعره دون المساس بآياته، وكانت لي معه وقفات ومعارضات في بعض ذلك؛ لكنه فن يحترم في مجمله، وخاصة في دلالاته الاجتماعية. إن ما أكتبه الآن سريعًا تلبية لحق الصحافة في أداء واجبها مشكورة نحوها الأديب اللغوي الكبير لا يكفي لاستيفاء حقّه؛ إلا أتكون هذه حلقة في سلسلة من ذكراه. رحمه الله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جنّاته. (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).