ولكن مما يؤسِف أن رأيًا سلبيًا طارئًا نفثه بعض المستشرقين عبر بعض تلامذته من أبناء المسلمين نفى فيه وجود نظام الحكم في الإسلام! صلب قوانين السياسة وأصلها ومرجعها: الأحكام الدستورية، وهي في الإسلام مجال من مجالات السياسة الشرعية الرئيسة، التي تحويها النصوص الشرعية والفقه الشرعي المستنبط منها. وقد بحث علماء الإسلام هذه المسائل في الكتب المتخصصة، ككتب السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية والولايات الشرعية، كما بحثوها في كتب التفسير وشروح السنة ودواوين الفقه الإسلامي العامة، وبحثوا بعضها في كتب العقائد أيضًا. ووجود هذه المسائل والأحكام في الشرع الإسلامي، جزء الإسلام، وتطبيق لخاصية من خصائص الشريعة الإسلامية، وهي خاصية الشمول في النظام الإسلامي؛ تلك الخاصية، التي نطق بها المنصفون من المستشرقين ومن الباحثين الأجانب، ومنهم لويس غارديه الذي قال: "إنَّ الإسلام دين، وأنَّه أيضًا في تعاليمه الأساسية جماعة تحدّد باسم الدين لكل عضو فيها ولجميع أعضائها على السواء شروط الحياة وقواعدها: فالحياة العائلية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية المحضة، والمصلحة العاجلة في هذه الحياة الدنيا، والنعيم المقيم لكل مؤمن بالحياة الآخرة، كل ذلك مرسوم في وحدة كلية كبرى، يهيمن عليها الإسلام وينفخ فيها من روحه !". ولكن مما يؤسِف أن رأيًا سلبيًا طارئًا نفثه بعض المستشرقين عبر بعض تلامذته من أبناء المسلمين نفى فيه وجود نظام الحكم في الإسلام! ويكفيه فسادًا وبطلانًا أنَّه رأي مخالف لإجماع المسلمين على مرّ العصور. كما يكفيه إفكًا وزيفا، أنَّ كتب الفقه ومدوناته وكتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، من الكثرة بمكان. وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور عبدالحميد متولي رحمه الله سبب وجود هذا الرأي الشاذ، في طرح المسألة طرحًا خاطئًا؛ فحقيقة هذا الرأي الشاذ تعود إلى اعتبار الإسلام دينًا روحيًا فحسب، وليس دينًا يحكم الدنيا والدولة. وأنَّ الطرح السليم للمسألة يكون بتحديد ما إذا كان الإسلام قد جاء -بالإضافة إلى ما قرّره في أحكام الدين والعبادات- بمبادئ أو قواعد عامة تصلح لنظام الحكم في الدولة ؟ ولو أنَّ البحث في هذه المسألة سلك هذا المسلك، لما وُجِد الرأي الشاذ، ولما أنكر البعض حقائق ثابتة في الشريعة الإسلامية لا تثير أي خلاف حولها. وتؤكّد هذه الحقيقة في العصور السابقة مؤلفات السياسية الشرعية والأحكام السلطانية كما أسلفت؛ وما يهمنا منها هنا هو المؤلفات العامة المعاصرة، التي تخصصت في كشفها بالبيان المختصر الواضح، وذلك من مثل: مصنفة النظم الإسلامية – الدستورية والدولية والإدارية والاجتماعية، لنائب رئيس مجلس الدولة المصري السابق، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون الدكتور مصطفى كمال وصفي والذي يقع فيما يقارب ستمائة صفحة. وأمَّا تعداد وسرد النصوص القرآنية والأحاديث النبوية (الدستورية المتعلقة بنظام الحكم) فلعلّي أستعرض بلغة الأرقام بعض ما جاء في: (موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي) من تعداد وسرد للآيات القرآنية والأحاديث النبوية: فقد جاء في الجزء الأول المختص بالنظم السياسية أربعة أبواب: الباب الأول: نظام الحكم 739-875 (136 صفحة)، والباب الثاني: مواصفات الحاكم وواجباته 877-1126 (249 صفحة)، والباب الثالث: وظائف الحكومة 1129-1324 (165 صفحة)، والباب الرابع: قواعد السمع والطاعة 1333-1367 (34 صفحة)، والباب الخامس: الرأي العام وظائفه وضوابطه 1370-1402 (32 صفحة)، والباب السادس: السلطة القضائية 1405-1521 (116 صفحة)، والباب السابع: الوحدة السياسية للأمة 1525-1575 (50صفحة). وجاء في الجزء الثاني المختص بالنظم الاقتصادية (199 صفحة)، الباب الأول: مصادر ميزانية الدولة 1579-1625 (46 صفحة)، والباب الثاني: ضوابط حول التعامل بالمال 1629-1702 (73صفحة)، والباب الثالث: ضوابط النشاط الاقتصادي 1705-1785 (80 صفحة). والمجموع لهذين الجزئين (949 صفحة) .ويبقى الجزء الثالث المختص بالنظم الاجتماعية، فلم يسعفني الوقت لتتبعه. وأمَّا بالنسبة للفقه السياسي التراثي الشرعي بما فيه الدستوري، فإنّ ما يقارب 85 % من مؤلفاته التراثية مازالت -بحسب بعض الباحثين- مخطوطات لم تطبع بعد!