أسوأ ما في الأنظمة المستبدة الفاسدة انشغالها بالنهب والسلب على حساب أوجه الحياة الأخرى في المجتمع. ويزداد السوء سوءًا عندما تُفتح أبواب الكلمة الحرة غير المتزنة، فيسمعها الصغير والكبير، والجاهل والعالم، والوضيع والرفيع. ومنها يتعلم البعض فصولا من البذاءات غير المقبولة، والتصرفات غير المعقولة. ويبدو أن ذلك جزء من المشهد المصري عبر ثلاثة عقود أو أكثر. انشغل الناس بالكلام عن العمل، وبالتهريج عن التعليم، وبالحديث عن الفساد عن الحرب على الفساد. ولذلك كانت أزمة اليوم بين بلاد الحرمين وأرض الكنانة. وكان اللسان فيها البطل الأول بلا منازع. هذا اللسان الذي أمر بالكف عن الأذى، خاصة عن دولة شقيقة يدرك كل مصري أنها من النوع الذي تُربط ألسنة عامته قبل خاصته عند كل أزمة مهما بدت كبيرة ومؤلمة وعصية، فلا قوائم طويلة ولا قصيرة تزخر بالتذكير بالأفضال والمنن، فذلك عند العقلاء عيب لا يخطر على البال لا سرًّا ولا جهرًا، والله يأمرنا فيقول: (لا تذهبوا صدقاتكم بالمن والأذى)، فكيف بمن لا تصدق ولا أعطى، وإنما جنى أجرًا عن عمل. آه من هذا اللسان ما أردأه وما أخبثه عندما يكون السلاح الوحيد في حرب لا تستحق كل هذا الجدل الشنيع. حرب الألسنة هي بدايات كل شر، واذكروا إن شئتم معلقة عمرو بن كلثوم التي أطاحت برأس عمرو بن هند بسبب كلمة جارحة صدرت من أم المقتول إلى أم القاتل: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقمة الجهل أن يجهل المثقف والسياسي والإعلامي فوق جهل الجاهلينا، فيزيد النار ضرامًا، ويكب عليها وقودًا باسم النخوة وباسم الشهامة، وهي لا تعدو حمية جاهلية من زمن سحيق. وسألت نفسي: ماذا لو تم القبض على الشخص نفسه عند دخوله دولة أوروبية أو أمريكية شمالية، فهل سيكون رد الفعل بهذا السوء غير المتوقع أبدًا خاصة من (حبرتية) الإعلام المفتوح؟ أم أنها ستدخل في باب (العدالة البيضاء) والإجراء الصائب؟ وأما في عالمنا العربي المجيد، فنظرية المؤامرة جاهزة بما تعنيه من سابق ترصد وكمين مسبق وثقة مفقودة.