تقوم الحضارات على مبادئ وأفكار وقيم، تبين فلسفة هذه الحضارة وأساسها وغايتها، وتجذب بسموِّها الناس لاعتناقها والإيمان بها. لكن هذه المبادئ بلا قانون يحدد ماهيتها ويضبط حدودها وعقوبات مخالفتها؛ تظل أفكاراً عائمة حالمة أقرب إلى الخيال، ومهما دعت أي حضارة إلى الحرية واحترام الإنسان ورغباته وإرادته؛ إلا أنها في النهاية لابد أن تخضع نظرياتها إلى قوانين وضوابط تفصيلية، تمثِّل الجانبَ التطبيقي لتعاليم الحضارة، وهي الفيصل في أي شأن تختلف حوله الآراء أو تتنازع الحقوق، وهي صمام الأمان من كل تجاوزٍ من شأنه أن يخلَّ بالمبدأ أو يشيع الفساد. وكمثال على ذلك، نلحظ في العالم الأول اليوم، والذي بهر كثيراً بما فيه من تقديس للحرية العامة وعناية بالكرامة الإنسانية، نلحظ أنه يقوم على شبكة معقدة من القوانين التفصيلية التي تؤطر للفرد والمجتمع ما له وما عليه، مع ما تتسم به من صرامة وشمول في تطبيقها على الجميع، لأنه لا يحمي الحرية سوى القانون، ولا يظهر المسؤولية إلا الضابط. والشريعة الإسلامية - وقد بلغت شأواً رفيعاً في سمو المبادئ ورقي التعاليم من لدن العزيز الخبير عزَّ وجلَّ - تضم عدداً كبيراً من الضوابط والقوانين منضوية تحت لواء الشرع بحدوده وتعزيراته الموافقة لمقاصده، تبين المبادئ وتمنع من مخالفتها، وتوضح العقوبات المترتبة على ذلك، وتتفاوت قوة ويسراً تبعاً لمكانة المبدأ في الشريعة. ويخطئ من يظن أن القوانين في الشريعة ليست سوى الحدود، بل إن الحدود لا تشكل سوى جزء يسير من أبواب المدونات الفقهية – التي هي بمثابة دستور قانوني للشريعة – بينما يشغل الباقي مختلف تفاصيل الحياة من عبادات تقوم بها التزكية، ومعاملات تبرز فيها الأخلاق. ويتحلى الأثر الشامل على الحياة لإقامة القوانين في الشريعة، في تطبيق أشد القوانين صرامة وغلظة وهو القصاص، إذ هو في ظاهره إزهاق لنفس وإراقة لدماء، لكن الله تعالى سماه (حياة) كما في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، في دعوة للتأمل في مآلات الظواهر، إذ في تطبيق هذا القانون حياة للفرد والمجتمع وحفظ للأنفس المعصومة فيه، وعلى هذا فقس بقية القوانين والضوابط التي دون ذلك. وها هنا إشارة، إذ إن وجود القانون لأي حضارة لا يعني الحكم عليها – من خلال الأفراد الذين يطبق عليهم القانون – بالنجاح والفلاح، إذ أن عدالة القانون وسموه هو جانب وهو النظري في هذه المنظومة، والذي بلغ الكمال في الشريعة بلا ريب، ثم يأتي دور الجانب الإلزامي وهو دور الجهات التنفيذية من حكومات ومؤسسات، أو مدير إدارة أو رب أسرة، أو رقابة المجتمع ككل، وهو متباين الكفاءة، وبعده يأتي دور الجانب التطبيقي وهذا الذي يتفاوت فيه الناس كما وصفهم الله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ..)، ووفقاً لهذا التفاوت يكون إجراء قوانين العقوبات، والتي يؤثر في قوتها وجديتها الجهة التنفيذية وحدها. ويمكن تصنيف الضوابط عموماً إلى ثلاثة أقسام باعتبار طبيعتها - سواء أكانت في حياة الفرد أم المجتمع – فالأول الأحكام الشرعية، موافقة لحلالها وامتناعاً عن حرامها، والثاني القوانين المدنية، وهي في ظل الشريعة تدخل في مجال التعزيرات وما يراه الحاكم من مصالح من شأنها تنظيم حياة الناس كالأنظمة الحكومية، والقسم الثالث الأعراف والعادات الحسنة الشائعة بين الناس، والتي يكسب من يراعيها احترام الناس وتقديرهم، بما لا يخالف أصلاً شرعياً. وعلى الصعيد الفردي، قد تقوم في النفوس بعض الضوابط التي لا يقدر عليها إلا النخبة من الناس، وهي المبادئ الشخصية الرفيعة التي لا يقبل المرء التنازل عنها مهما كانت الظروف، في يقظة ضمير وحضور قلب، وبمجاهدة ومراجعة، فينتج عن ذلك كثير من الخصال السامية، كالنبل والنزاهة، والترفع عن المبتذل من الهمم والأفعال.