ظل التشكيليون السعوديون مقيّدين بما طرحته تجارب الفن الغربي يتعاطون في إطار مدارسه الحديثة إلى وقت يمتد حتى عصرنا الحاضر رغم أن بعض الأسماء التشكيلية بدأت منذ وقت قريب في ملاحقة فن ما بعد الحداثة ومحاولة حجز مقعد - وإن جاء متأخرًا - في تطوير الفن السعودي لهذه المرحلة. و مما لا شك فيه أن ذلك كله كان من إفرزات النهضة العلمية والثورة المعرفية بحكم النمو الحضاري والاقتصادي والمعرفي الذي طال البلاد. ولقد أسهمت الشبكة العنكبوتية والبعثات الخارجية للباحثين والباحثات من أبناء الوطن بدور بارز في دعم الفكر التشكيلي السعودي ومحاولة إيجاد بصمة خاصة تفرض وجودها في التشكيل العالمي.. بيد أن الاهتمام بشكل دقيق بدراسة الموضوعات المتعلقة بموروثات الوطن توقف عند نقل الصور البيئية والاجتماعية والاقتصادية وبقيت الكثير من الموضوعات تنتظر من التشكليين خوض غمارها خصوصًا فيما يتعلق بما تركه الإنسان الباليوليثي من خطوط بدائية في مظهرها تركها أسلافنا البسطاء على سطح الصخور والشواهد من الأحجار منذ سنين طويلة خلت، وأعتقد أن الأمر لا يتوقف عند التشكيليين فقط فيجب على التاريخ أن يتعاضد معه لمحاولة استكشاف أعداد الفطريين الذين كانوا يحملون في دمائهم حب وسم الصخور بالصور والرسوم وهل كانت لديهم مراحل تطور مطّردة! والحديث في هذا الأمر يطول لأن دراسة ما ترك على الصخور في الجزيرة العربية في تلك الحقبة يصعب تقييمه ورصد حالته في الوقت الحالي دون وجود حلقة عمل تكاملية بين علوم الجيولوجيا والأنثروبلوجيا رغم ذلك أظن أن الكثير من الاستكشافات سيكون حليفها النجاح.. حظيت بزيارة معرض أحافير للفنان التشكيلي عبدالله إدريس الذي تناول في بحثه التشكيلي عنوان أحافير يتناول فيه موضوع الوسوم والرسوم الصخرية والنقوش التي تركها الإنسان الفطري في الجزيرة العربية ناشدًا تجديد هذه الموضوعات وإحيائها ومحاولة نقلها للعالم بأسلوب حضاري جديد يحاول التوافق مع الحياة العقلية التشكيلية العالمية. الفنان الفطري الذي عاش قبل ألفين وخمس مئة عام قبل الميلاد وأكثر والذي لم يكن يحمل في يده من أدوات إلا الحجارة الحادة وبعض القطع المدببة التي استخرجها مما طرحت الأرض ومن عظام الحيوانات وبعض الأفكار البسيطة التي تتعلق بحياته ومظاهرها الاجتماعية أحيانًا والحربية حينًا آخر، يعود اليوم في صورة عبدالله إدريس الفنان الحضاري المثقف الذي يأتي وفي يده ألوان مختلفة أكريليك، باستيل، أوراق صحف، صور لتراثيات البلد، جص أقلام إلخ.. ويتعاطى مع موضوعاتهم التي تركوها على الصخور بامتداد الجزيرة العربية مركزًا على الحيوانات التي كانت لها الحضوة في الجزيرة العربية والتي كانت تنتشر في أجزائها بوفرة أو ندرة.. اللوحة الأولى التي تقابل المتلقي عند أول خطوة من استعراضه للمعرض يعتمد فيها الفنان على خريطة تفصيلية دقيقة لجزء من مدينة جدة أضاف في بعض أجزائها لمسات من الجص والألوان واعتمد في التعبير عن تلك الرسوم الصخرية برسم مبسط للجمل أهم حيوانات الجزيرة العربية والتي يرتبط بها العربي ارتباطًا وثيقًا حيث أخذ شكل المثلث من سنام الجمل واعتمد في التعبير عليه برسم خطوط ذات أبعاد تمنح الشعور بأن الفنان الذي يتعاطى اليوم مع هذه الرسوم يتعامل معها ببساطة الفنان الفطري القديم لكن بعقلية الفكر المتحضر ويؤصل استخدام الأشكال الهندسية في طرح أفكاره بدا الفنان معتمدًا على ألوان الخريطة وفصل بين الموضوع والخريطة باعتماده على اللون الأسود الذي خط به صورة الجمل البسيطة فتجدك نطيل النظر إلى هذا الكيان الأشم الذي يحتل أغلب مساحة اللوحة. اللوحة الثانية تأتي أشبه ما تكون بتقنية الحفر وتمثل شكلًا قريبًا من واقع النحت على الصخور القديم يرسم فيها الوعول الجبلية ويسقط الضوء على الوعلين حيث يرتكز العنصر السيد في اللوحة في المنتصف تمامًا بخطوط حركية توحي بحركة الركض والقفز ثم يحدهما إطار مربع ليعبر عن المحور الرئيس وليصرف عين المتلقي إلى حيث البحث الذي يتناوله في لوحاته وقد استخدم الجص في إضافة ملامس بارزة تعطي انطباعًا بجدارية كهف أو صخور قديمة وألوان البني والأصفر والأسود التي ترافقه في جميع لوحات أحافير.. في اللوحة الثالثة يركز الفنان على رسم الجمل وفي هذه المرة يجعل المغزى في بطنه تمامًا حيث يستخدم تقنية (الكولاج) من خلال بعض الصور التي تمثل الحرف اليدوية التقليدية في المملكة فنرى صورًا لصناعة (السدو) التي كانت تسد حاجة البدوي في بيته البسيط والتي تتميز بزخارفها الجميلة البسيطة وألوانها الدافئة وكأنه يريد أن يوصل لنا فكرة صبرهم وقهرهم لحاجتهم بتطويع ما تقع عليه أيديهم من خامات البيئة المتاحة لسد احتياجاتهم من المنسوجات سواء أكانت رداءً أم غطاءً أو بُسٌطًا وحصر يجلسون عليها وتسيطر كتلة العمل على المساحة الأغلب للوحة ويظهر الفراغ كداعم يوجه رؤية المتلقي نحو الفكرة الرئيسة في العمل هنا حيث يوجهنا لتراث أرضنا.. اللوحة التي تمثل حياتنا الحالية والتي تنقل مشهدًا حيًا عن الممارسة الفنية الفطرية هي الجدارية التي أخذت صدر صالة الأتيليه والتي كانت تحمل في جوفها ثروة الفنان العقلية التشكيلية التي تخدم الهدف وتجمع بين الصورتين لرسوم الإنسان الفطري وللرسوم والشخابيط التي تركها الإنسان الحديث على صفحة المكان ذاته حيث تتراكم الرسوم والكتابات بشكل مقصود فوق بعضها ولم يثقل الفنان على نفسه حين جعل منها صورة مسرح للإنسان الجديد تظل تركض بنظرك في كل أرجاء الجدارية علك تستطيع اللحاق بأفكار الفنان والقبض عليها والاندماج بها لكن هيهات فأنت تغوص في بحر عميق جدًا بحر زاخر بدرر تتكاثر لا تقف عند حد معين وكل ما عرض فيها يدفعك عند تأمله إلى فكرة أخرى ومضمون آخر وهكذا تظل تركض في اللوحة وتركض دون أن تعرف من أين بدأت وإلى أين انتهيت.. ثم نراه في الكثير من لوحات المعرض والتي تربو على الأربعين عملًا قد رسم الجمل في صور مختلفة وبطرق مبسطة تشبه طريقة الفنان البدائي ولكنها بثوب جديد بلغت حدته عندما بدأ يتخذ من بطن الجمل مسرحًا يعرض فيه أفكاره.. نلاحظ من خلال استعراض لوحات معرض أحافير أن جميع أفكار الفنان كانت تأخذ مركز اللوحة في المنتصف وتشمل أغلب مساحتها وما زالت بصمته اللونية ترافقنا في كل المعروضات والتي تظهر في اللون الأزرق والأصفر والخمري..