يقدم المشهد العربي في عدد من أقطاره مشهداً عن تصدع بنى الدولة العربية وتحوله نزاعات وحروباً أهلية، بعضها يعبر عن نفسه بعنف مسلح مباشر، وبعضها ينتظر دوره لكون العنف كامن في هذه البنى، وهو عنف تمتد مروحته من الجزيرة العربية واليمن الى المغرب العربي الى المشرق المنفجر خصوصاً في العراق ولبنان. يثير هذا التصدع أسئلة عن موقع الدولة العربية ودورها في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية والقومية. مثّل نشوء الدولة في أوروبا واحداً من أهم درجات التطور والحداثة. لعب النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري دوراً في بلورة مفهوم القومية الذي شكل قاعدة الكيانات الأوروبية التي كانت تعاني من انقسامات على نفسها وصراع بين بعضها البعض للسيطرة على الأراضي والمقاطعات. ساعد قيام الدولة في أوروبا على بلورة قواعد قانونية ومبادئ تتصل بالفصل بين السلطات والمساواة أمام القانون وحماية الحريات وتحقيق المواطنية وغيرها. فشكلت هذه المبادئ أسساً استندت إليها أنظمة الاستقلال في العالم الثالث ومنها العالم العربي، في وضع دساتيرها وقوانينها. تكونت معظم الدول العربية منذ نصف قرن تقريباً. قامت في سياق النضال من أجل الاستقلال الوطني وعلى حاملة مشروع قومي ذي مضمون اجتماعي وسياسي وطني. استوحت النخب العربية التي استلمت زمام الحكم في الكثير من أنظمة الاستقلال مبادئ تنظيم الدولة المعمول به في الغرب، وأخضعت بعض نصوصه بما يتوافق مع واقع المجتمع المحدد. تحوي الأقطار العربية في الوقت الراهن دساتير تتشابه في التوجهات والقوانين والتشديد على الأهداف المركزية للدولة، وتؤكد على الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، كما تركز على مقولة الفصل بين السلطات وتأمين التوازن في ما بينها وسيادة القانون على أبناء الشعب... كما تذهب هذه الدساتير بعيداً في التزام المبادئ الديموقراطية في الحكم التي تكفل المساواة بين المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتضمن الحقوق العامة لا سيما منها حرية الإعلام والفكر والمعتقد والعمل السياسي. كما تشدد هذه الدساتير والقوانين على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وتسعى الى الارتقاء بمستوى الإنسان العربي، وتعلن جهاراً عن تصميمها على تحقيق المساواة بين المجموعات السياسية والأقليات والطوائف والاثنيات ومكافحة التمييز ضدها. شكل تحقيق الاستقلال وتعيين مبادئ الدولة المستندة الى الدستور والقوانين أحد مصادر شرعية السلطة. يؤشر المشهد العربي الراهن منذ عقود الى تغييب شبه كامل للقواعد الدستورية والقانونية، وبالتالي انحساراً في شرعية السلطة، وذلك لمصلحة تمركزها في يد قوى محددة وبما لا يتناسب مطلقاً مع المبادئ التي أسست لقيام الدولة، وهو ما عنى تراجعاً في منطق الدولة لمصلحة منطق السلطة. قد يبدو هذا القول غريباً من الناحية النظرية لصعوبة الفصل بين الدولة والسلطة في أي بلد. إذا كان السؤال حول الدولة والسلطة في الدول الحديثة عبثياً ولا معنى له، فانه يكتسب دلالة راهنية كبيرة في الوطن العربي. في المجتمعات العربية، تعاني الدولة الوهن على حساب سلطات متنوعة الانتماءات، عسكرية أو طائفية أو قبلية أو اثنية. أدى هذا التراجع في تطبيق مبادئ الدولة الى تحولها سلطة استبدادية تستند في شكل رئيسي الى الأجهزة الأمنية أو بعض المكونات التقليدية، وبما يؤدي الى إلغاء للقوانين الدستورية. تمارس هذه السلطات، وخلافاً للنصوص الدستورية تغييباً للحريات العامة، وتميز بين المواطنين لمصلحة الجهة التي ينتمي إليها الحاكم. اختزلت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد سلطة الحاكم، فتعزز بذلك الطغيان. تحولت الجيوش الى أداة لسحق الإنسان العربي والى سيادة نظام الطاعة المطلق. تقلصت الحريات الفكرية والسياسية وانحسر النهوض الاقتصادي، وساد الفقر والبطالة والأمية والفساد، ونجم عن ذلك غياب المحاسبة والمراقبة. والأخطر من ذلك غياب تداول السلطة بل واحتكارها من أقلية مسيطرة. لا يعود غريباً ان تنبعث في العالم العربي مكونات ما قبل الدولة، من استعادة للطوائف والعصبيات القبلية والعلاقات العشائرية، وأن يحتدم الصراع في ما بينها من أجل اقتسام المؤسسات والبلد إجمالاً، ولو أدى ذلك الى الإطاحة بما كان المجتمع حققه من تقدم وتحديث. هكذا بات المواطن العربي يعبر عن نفسه ليس بانتمائه الى هذا البلد أو ذاك، بمقدار انتسابه الى طائفة أو قبيلة أو عشيرة. بات السعي الى تغيير الحاكم مشروع قيام حرب أهلية نظراً للاندماج بين الحاكم والجماعة التي يمثلها أو يحكم باسمها. يشهد على ذلك حجم الاصطفاف الذي تعيشه المجتمعات العربية وإمكان تحوله حروبا أهلية تهدد العديد من الأقطار وتهز الكيانات التي كانت راسخة في المنطقة. في ظل هذا المناخ تصبح الاستعانة بالخارج عنصراً أساسياً في حسم الصراعات وتحقيق الغلبة لمصلحة هذه المجموعة أو تلك. كما تصبح قدرة هذا الخارج على النفاذ الى قلب المجتمعات العربية واختراقها أكثر يسراً وسهولة على التلاعب بالأوضاع الداخلية بما فيها التلاعب بالكيانات المترجرجة والسائدة في أكثر من مكان عربي. تطمح المجتمعات العربية وشعوبها الى التقدم والحرية والاستقلال، يؤشر المسار العربي الى ما يعاكس هذا الطموح. يستحيل الخروج من هذا المأزق من دون استعادة الدولة ومنطقها وتحقيق سيادة القانون، وهو أمر يصعب تحقيقه ما لم تتوافر قوى ومؤسسات تؤمن حقاً بالتغيير السياسي السلمي وإعادة استنهاض المجتمع بجميع مقوماته وقواه الاجتماعية والسياسية.