تتجلّى عبقرية رواية زوربا، في ذلك الالتقاء بين الأكاديمي (رجل الكتب)، والذي لا يجد وقتًا للحياة، وبين زوربا (رجل الحياة) الذي لا يجد وقتًا للكتابة، ولا حتى القراءة. العلم بكل تراكمه وإنجازاته يتحوّل في الرواية إلى مجرد خرافة، في مقابل (علم) زوربا المتشرّد الذي اختزل كل حكمة اليونان.. كل فلسفتها.. كل آلهتها في كلمات غاية في البساطة والعمق، وربما في رقصة هي عماد فلسفته التي يواجه بها الحياة: فرحًا وحزنًا.. صعودًا وهبوطًا.. في آخر مشهد من الفيلم الذي مثله (أنتوني كوين) بالأبيض والأسود (المقتبس عن الرواية) يطلب الأستاذ الجامعي، الذي تحوّل إلى تلميذ، من زوربا المتشرّد أن يعلمه الرقص. ينتهي الفيلم بذلك المشهد الرائع الذي يرقص فيه زوربا مع (تلميذه) على أنقاض كل الكتب والنظريات، ومع تلك الموسيقى الساحرة التي تضج بالحياة والفرح، والتي هيمنت عليها الآلة المتوسطية الشهيرة (البزق). تحويل العلم إلى خرافة، والخرافة إلى علم، كان رد فعل طبيعي على حربين عالميتين، كان من نتائجها (العلمية) أنها حصدت عشرات الملايين من البشر، ودمرت دولاً بكاملها، عوضًا عن أن يكون قتلاها بالآلاف، فيما لو تمت في عصور الرمح والسيف (المظلمة). ذلك هو الدور الذي تمنى أن يلعبه الفنان الراحل خالد تاجا.. ذلك السوري (الكردي) النحيل الطويل، والضاغط على كلماته، ذو الوجه الصلصالي العجيب الذي يفيض بالتعابير، التي يضيق عنها كل النثر والشعر. رحل عن دنيانا دون أن يتمكن من لعب (دوره الكامل)، برغم كل ما لعب من أدوار، وعاش من حيوات.. سيظل ذلك الدور الكامل معلقًا في مكان آخر، وفي زمن آخر. ربما لعبه أنتوني كوين (وربما لا)، لكن من المؤكد أن فنانًا كخالد تاجا، ومهما بلغ من كمال فني، لا يملك أن يلعب الدور الكامل في البلدان الناقصة. في البلدان الناقصة لا يسمح لأحد أن يلعب دوره الكامل، لا في الفن، ولا في الأدب، ولا في السياسة، ولا في الرياضة.. غاية ما يتمناه إنسان هذه الأوطان أن يعيش مع حد أدنى من الكرامة، وأن يجد في الأرض متسعًا لقبر أنيق، يكتب على شاهده كلامًا أنيقًا، شبيها بما كتبه (تاجا) على شاهد قبره: "مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب مَن رآها.. لحظة ثم مضت".