.. بنفس السيناريو تقريبًا الذي تكرر قبل سنوات على أيدي الجنود الصرب وأعوانهم وأعداء الإنسانية عندما اغتصبوا مسلمات البوسنة والهرسك الشريفات، وقتها ثارت الأمة على بكرة أبيها ومعها كل الشرفاء في العالم المتحضر على تلك الهمجية والبربرية.. لكن اليوم كما تقول العرب «أسمع ضجيجًا ولا أرى طحنًا» فمئات الطاهرات من بنات ونساء سوريا الشقيقة يتعرضن للاغتصاب، وتعج المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي بقصص تدمى القلب عن حالات اغتصاب ممنهجة يقوم بها شبيحة النظام وجنوده لهن..ولا حياة لمن تنادي! وقد ينجم عن ذلك الاغتصاب حملا، فتدفع المغتصبة الثمن فادحًا جريمة وقعت عليها، وجنين في بطنها لا تعرف ماذا تتصرف فيه، فيما أرسلت سوريات نازحات أو في المدن التي تتعرض لمداهمات، لجهات فقهية يردن معرفة الموقف الشرعي من الاغتصاب بالإكراه، وهل يجوز لهن إسقاط الأجنة من بطونهن؟» في البداية يقول الدكتور خالد الدعيجي ل»الرسالة» إنه وردت إلى أمانة موقع «الفقه الإسلامي» رسائل تحمل أسئلة فقهية من نساء تعرضن لظروف بشعة ويستفسرن عن إسقاط جنين المغتصبة، فكان بدورنا إقامة حلقة نقاش حولها؛ لأن هذه مسائل فقهية معقدة وتحتاج إلى اجتهادات كبار العلماء، ولذلك كانت حلقة النقاش الفقهية حول حكم إسقاط جنين المغتصبة، شارك فيها عدد من الفقهاء الذين تناولوا القضية من أبعادها الشرعية المختلفة. ثلاثة أحوال وحول الرؤية الشرعية في تلك القضية الشائكة أوضح الدكتور عبد السلام بن إبراهيم الحصين الأستاذ في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء أن وضع النساء اللاتي حملن بالإكراه في سوريا ينظر إليه من ثلاثة أحوال الأولى: إن كان الحمل قبل الأربعين يومًا، فيجوز إسقاطه مطلقًا؛ لأنه ما يزال نطفة ولم يكتمل تخلقه وتصوره، وما ويترتب على بقائه من الضرر للأم أعظم من مراعاة مصلحة هذه النطفة. والحالة الثانية: إن كان الحمل بعد الأربعين يومًا وقبل نفخ الروح، فيجوز إن كانت المرأة لا تستطيع أن تتحمله نفسيًا واجتماعيًا، أو يترتب على بقائه ضرر عليها؛ لأنّ مراعاة حال الأم أولى من مراعاة هذا الجنين، وأما إذا كان من الممكن تحمل ذلك، ولا يصيبها به أذى كبير يؤثر عليها فلا يجوز إسقاطه، لأن الجنين بعد الأربعين بدأ في التخلق، وتكون أعضائه، فيكون له حق في الحياة، ولكنه حق غير مكتمل، بسبب عدم نفخ الروح، فيكون ملاحظة حال أمه أولى من ملاحظة حاله هو. أما الحالة الثالثة والحديث مازال موصولا للدكتور الحصين:»إن كان بعد نفخ الروح، فلا يجوز إسقاطه، لأنه بنفخ الروح فيه قد أصبح له حق في الحياة، وصار نفسًا، فيكون إجهاضه قتل للنفس، وهو لا ذنب له فيما حصل، إلا أن يكون على الأم ضرر عظيم في بدنها، بحيث يمكن أن تفقد حياتها بسببه، فلا شك أن المحافظة على سلامة الأم أولى من المحافظة على سلامة الجنين. وقال الحصين: ينبغي التعاون من المجتمع للتخفيف من معاناة الأم في هذه الأحوال، وأن تحس بوقوف الناس معها، وكذا هذا الجنين إذا خرج إلى الحياة فله حق في الحياة الكريمة، ويمكن أن يحصل به نفع عظيم إن هو وجد الرعاية والاهتمام والتربية الصالحة. راجحة أو متحققة أما الدكتور عبد الله السكاكر أستاذ الفقه المشارك بجامعة القصيم فقال:»الراجح الذي دل عليه الحديث الصحيح أن الجنين لا تنفخ فيه الروح إلا بعد أن يتم له أربعة أشهر (120) يومًا وعليه فيجوز في هذه الفترة قبل أن يتم له أربعة أشهر إجهاض الجنين لوجود مصلحة راجحة أو دفع مفسدة متحققة كالتي وردت في القضية المطروحة عن حمل المغتصبات في سوريا وقد نص على ذلك عدد من أهل العلم. ويقول الفقيه الدكتور عبد الله بن محمد الطيار»الأستاذ في جامعة القصيم:»الذي يظهر لي أنه لا يسوغ بحال إجهاض الحمل مهما كانت الأسباب والمبررات إلا في حالة واحدة فقط، وهي حالة الخطر المحقق على الأم إذا ثبت ذلك عن طريق الأطباء الموثوقين، وما عدا هذه الحالة فلا يسوغ إجهاضه سواء كان سفاحًا باختيار الأم، أو كان اغتصابًا، وعليها أن تصبر في هذه الحالة، وتعلم أن هذا من الابتلاء، وهي معذورة مأجورة، وقد تكون العاقبة لها خيرًا». جريمة بكل المقاييس ويشير الدكتور محمد عبد اللطيف البنا «أستاذ مشارك الفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود:»ليس هناك أدنى شك في أن ما يحدث في سوريا جريمة بكل المقاييس التي يندى لها جبين كل حر، وزاد الأمر سوءًا انتهاك الأعراض للعفيفات الحرائر، فنسأل الله تعالى أن يخلص الأمة من كل شر، وأن يعين أهل سوريا على ما ابتلاهم به. ويضيف لقد اختلف الفقهاء حول حكم الإجهاض قبل شهوره الأربعة الأولى، من بين محرِّم ومجيز بضوابط وأعذار ومجيز مطلقا، وما بعد هذه المدة شبه اتفاق على التحريم؛ منع من كماله الخلاف حول ما إذا كانت حياة أحدهما متوقفة على الآخر فأجاز البعض ومنع آخرون، ويلحق جنين الاغتصاب بهذا الخلاف فلا خلاف بين الفقهاء في أن الجنين يمر بمراحل أو أطوار، أخطرها مرحلة التخلق ونفخ الروح فيه، فإذا ما بلغها حرم الإجهاض لغير سبب حياة الأم. ويقول الدكتور البنا: إذا كان الفقه الجنائي الإسلامي قد رخص للمرأة أن تتخلص من جنينها إذا كان في بقائه خطر على حياتها، فلنا أن نتساءل أليس في بقاء جنين الاغتصاب ومنع إجهاضه قتل معنوي ونفسي للأم، ربما يكون أشد ألمًا من القتل المادي عند كثير من الناس؟ ناهيك عن القتل المعنوي للأهل والزوج، خاصة بعد أن ينزل المولود ويعيش معهم، ليذكرهم بتاريخه الأليم، وإذا كان بعض الفقهاء قد سمحوا بالإجهاض في الأربعة أشهر الأولى فيمكن القول: اعتبارًا لظروف الأم ووضع المجتمع، بمشروعية إجهاض جنين الاغتصاب بضوابط خاصة، ومن أهم تلك الضوابط: أولا: أن تتحقق حالة الاغتصاب بشروطها من إكراه الجاني للمجنى عليها وعدم رضا المجني عليها بدفاعها عن نفسها ومحاولاتها دفعه واستغاثتها إلاّ إن خشيت على حياتها كما هو وارد في باب الصيال. ثانيا: أن يتم الإجهاض فور زوال السبب (حالة الاغتصاب) لأن المرأة إذا تأخرت في الإجهاض مع إمكانها فكأنها رضيت بالحمل وأقرت به، وهذا يسقط حقها في الإجهاض، لنهي الإسلام عن نفي النسب بعد الإقرار به. يدل لذلك ما روي عن عمر أنه قال: «من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه» (سبل السلام 3/285). إلا إن اغتصبت الحامل التي مر على حملها أكثر من أربعة أشهر فليس لها أن تسقط الجنين بحال. ثالثا: ألاّ يكون الجنين قد بلغ صورة الآدمي ونفخت فيه الروح، فإذا استمرت حالة الإكراه حتى بلغ الجنين صورة الآدمي ونفخت فيه الروح، لم يعد من الجائز الاعتداء عليه، لأنه أصبح نسمة وخلقًا آخر، وله أحكام تخصه وإن لم تكن له ذمة مستقلة، ولذلك أطلق عليه فقهاء الحنفية «ما هو نفس من وجه دون وجه»، وبقاؤه في هذه الحالة لن يلطخ أمه بل سيكون دليلا على ضعف المجتمع وقلة النخوة فيه. رابعًا: أن تتم عملية الإجهاض تحت إشراف طبي مأمون، مراعاة لسلامة الأم. خامسًا: أن تكون عملية الإجهاض بطلب من المغتصبة أمام جهة رسمية معينة للتأكد من حالة الاغتصاب وصحة الإجراءات، ولتتبع الجناة. وإن أرادت التمسك بحملها فلها ذلك وتتحمل الأمة والمجتمع النفقة عليه وتربيته، لأن تقاعس الكل كان سببًا فيما حدث. ويطالب الدكتور البنا بالاستعانة باختلاف الفقهاء في مسألة الإجهاض بصفة عامة فيجوز إجهاضه قبل الأربعين يومًا وعلى خلاف إلى الأربعة أشهر، وكلما كان الإجهاض مبكرًا كان أولى، ويمنع الإجهاض تمامًا في حالة ما بعد الأربعة أشهر مع مراعاة الخلاف الدائر حول إذا ما تسبب وجوده في موت أمه ويرجح نزوله لما يلي: أولا: التضحية بالفرع من أجل الأصل أمر وارد ومنطقي خاصة إذا كان إنزاله سينقذ الأم وهو فقط السبب. ثانيا: أنه لم ينزل للوجود بعد وهو كما قال الفقهاء نفس من وجه دون وجه. ثالثا: أن التضحية بالأم قد يسبب له الوفاة أو المرض أو قد ينزل معافى ففي ضوء هذه الاحتمالات يترجح التضحية به. لا مانع على الأصح ومن جانبه يقول الدكتور عبدالرحمن بن أحمد الجرعي» أستاذ أصول الفقه بجامعة الملك خالد في أبها»:لا مانع - على الأصح - من إجهاض حمل المغتصبة قبل نفخ الروح ، لما في بقائه من الأضرار الكبيرة خاصة في مثل هذه الظروف، ولعدم مسؤولية الأم عما حصل، وهذا الجواز مشروط بتحقق الاغتصاب، وغلبة الظن بسلامة عملية الإجهاض، وكلما كان الإجهاض أقرب لحادثة الاغتصاب كان إلى الجواز أقرب، ما لم تنفخ فيه الروح فيحرم -الإجهاض- بالاتفاق. مقاصد الشريعة ويشير الدكتور خالد بن عبد الله المزيني أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، إلى أنه إذا كان الإجهاض بسبب الاغتصاب وكان قبل نفخ الروح في الجنين فهو جائز في قول جماعة من الفقهاء الذين صرحوا بجواز الإجهاض للعذر قبل نفخ الروح، ولأن الفتاة يلحقها عار هذا الحمل ويؤثر على سمعتها واستقرار حياتها الاجتماعية، ومن مقاصد الشريعة صيانة نظام الأسرة وحماية الأعراض خصوصًا أعراض المؤمنات البريئات، ويعرف نفخ الروح بمرور مائة وعشرين يومًا تقريبًا كما في حديث الصادق المصدوق أو بحركة الجنين حركة تدل على نفخ الروح سائلاً المولى تعالى وتقدس أن يحمي أخواتنا في سوريا وفي كل مكان من كل سوء، وأن يزهق الباطل وأهله. لم يجز إسقاطه ويشير الشيخ سليمان الماجد القاضي بالمحكمة العامة بالرياض وعضو مجلس الشورى إلى أنه يجوز إسقاط الجنين الناشئ عن طريق الإكراه إذا لم يكمل أربعة أشهر ولم توجد منه حركة ظاهرة فلو أكمل الأربعة أو حصلت منه حركة ظاهرة لم يجز إسقاطه، ويكفي في مثل الحالة السورية خبرُ المغتصبة لتعذر إثبات ذلك أو تعسره. وأضاف الشيخ الماجد :إن كان المستفتي هو الطبيب فيكفي في ذلك عدم ما يكذب خبرها من دليل أو قرينة ظاهرة. وأما اشتراط ثبوت الاغتصاب ففيه عنت عليهما. نزلة متكررة أما الداعية المعروف الدكتور عقيل بن محمد المقطري فيقول إن هذه النازلة مرت بالكثير من النساء المسلمات كما حدث في الشيشان والبوسنة وفي العراق وغيرها من الدول واليوم في سوريا وقد أصبحت الفتيات المسلمات الحرائر هدفا لجنود الطغاة في السجون وفي حروبهم على شعوبهم وكذلك للجنود المحتلين للبلدان وقال إن هناك مسائل مهمة في أحوال المرأة المغتصبة: أولا: أن المرأة المغتصبة التي قاومت وبذلت وسعها في المقاومة لهؤلاء المجرمين لا ذنب لها لأنها مكرهة، والمكره مرفوع ذنبه في الكفر الذي هو أشد من الزنا، كما قال الله تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) بل إنها مأجورة في صبرها على هذا البلاء ، إذا ما هي احتسبت أجر أذاها عند الله عز وجل ، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مايصيب المسلم من نصب ولا وصب ، ولا هم ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه). ثانيا: على الشباب المسلم أن لا يستنكفوا من الزواج من هؤلاء الفتيات المغتصبات وعليهم أن يحتسبوا الأجر في التخفيف من معاناتهن. ثالثا: أما إجهاض الحمل فالأصح من أقوال أهل العلم جواز إجهاض حمل المغتصبة قبل نفخ الروح، لأن في بقائه ضرر كبير على الأم من حيث سمعتها وشرفها وأن تبقى منبوذة أو أن تتعرض للأذى كالقتل مثلاً، أو أن تتعرض لمرض نفسي أو عصبي ، أو أن يصيبها في عقلها شيء، أو أن يبقى العار يلاحق أسرتها ، في أمر لا ذنب لها ولا لهم فيه ،خاصة في مثل هذه الظروف ، وجواز الإجهاض مشروط بتحقق الاغتصاب ، وغلبة الظن بسلامة عملية الإجهاض ، وكلما كان الإجهاض في وقت مبكر بعد الحادثة كان إلى الجواز أقرب ، مالم تنفخ فيه الروح فيحرم الاجهاض بالاتفاق سواء كان ناتجًا عن اغتصاب أم باتصال محرم كالزنى، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الغامدية التي أقرت بالزنى واستوجبت الرجم أن تذهب بجنينها حتى تلد، ثم بعد الولادة حتى الفطام هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.