لم تتغير أهم محددات السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من نصف قرن، فانحصرت غالبا بين ضمان استمرار تدفق النفط، وبين أمن إسرائيل، وعقب هجمات 11 سبتمبر انضم الإسلام السياسي إلى تلك المحددات، حتى بدا في بعض اللحظات وكأنه وحده لا سواه هو من يصوغ الرؤية الأمريكية تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي.. وهكذا فإن أي محاولة لاستشراف السلوك السياسي الأمريكي تجاه المنطقة ينبغي أن تمسك بتلك البوصلة الثلاثية الأبعاد (النفط، إسرائيل، الإسلام السياسي). الملف الإيراني يبدو نموذجياً طبقاً لتلك البوصلة، حيثُ تجتمع فيه عناصرها الثلاثة، على نحو لا يدع أي مجال للشك في مستوى الالتزام الأمريكي بالتعامل معه، ومع ذلك فثمة طيف واسع من الخيارات حول نوع التعامل، وتوقيته، وأدواته. لكن إيران ليست موضوع هذا المقال الذي يتناول الأزمة السورية وآفاق الحل ضمن سلسلة مقالات بدأناها تحت عنوان: «بين رؤية طائر.. ونظرة زاحف»، ومع ذلك فستظل إيران حاضرة بقوة في هذا المقال الذي نتناول فيه موقف الولاياتالمتحدة من الأزمة في سوريا، بحكم «تلازم الملفين» السوري والإيراني. المحددات الثلاثة للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة (النفط - إسرائيل- الإسلام السياسي) كلها حاضرة ومؤثرة في تعامل واشنطن مع الملف السوري الشائك، فالتحالف الاستراتيجي بين دمشقوطهران يضع سوريا على خارطة ملف النفط، وانعكاسات الوضع في سوريا وعلاقتها بحزب الله اللبناني يضعها ضمن المحدد الإسرائيلي للسياسة الأمريكية، أما علاقة الملف السوري بالمحدد الثالث» الإسلام السياسي» فتأتي من صلات دمشق بحزب الله وحماس وجماعات «جهادية» أخرى قد يكون من بينها «القاعدة»، فضلاً عن احتمالات سقوط سوريا في قبضة الإسلاميين إذا ما انهار النظام. سوريا إذن هى حالة نموذجية على خارطة المحددات الثلاثة للسياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فإذا أضفنا إلى ذلك، العلاقات الأمنية الخاصة بين سوريا وكلا من موسكووطهران، يصبح الملف السوري واحداً من أهم الملفات أمام الرئيس الأمريكي في اللحظة الراهنة، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله إدارة أوباما؟ وما الذي تحاول تجنبه في الأزمة؟ وما الذي يمكن أن يفعله العرب لتحريك الموقف الأمريكي؟! بالنسبة لقوة عظمى مثل الولاياتالمتحدة، فإنها تستطيع - نظريا- أن تحقق أغلب ما تريده، ولهذا فإن أي جهد يستهدف تحريك الموقف الأمريكي في الأزمة ينبغي أن يبدأ باستثارة رغبتها في العمل عبر محفزات أو مصادر تهديد، وحتى اللحظة لا يبدو أن واشنطن قد بلغت محطة الطمع في الكسب أو الخوف من الخسارة، وبينما كانت أطراف عربية تستحث الإدارة الأمريكية ودول التحالف الغربي على وضع قضية الشعب السوري على رأس أولوياتها، كان بنيامين نتانياهو يعيد ترتيب الأوراق في المكتب البيضاوي، فيضع ملف إيران النووي فوق كل الملفات، ويشغل الإعلام الأمريكي وبرامج «التوك شو» المسائية بالحديث عن ضربة إسرئيلية لطهران قد تورط واشنطن في الحرب؛ ما لم تقرر هي توجيه الضربة نيابة عن إسرائيل. باختصار فإن ما تريده واشنطن في الملف السوري، حتى هذه اللحظة، ربما يبدو غامضاً، رغم تصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، ورغم تصويت أمريكا لصالح قرار ضد الأسد في مجلس الأمن، عرقله فيتو روسي- صيني مزدوج، وأعاد تصنيف الملف ضمن صراعات استراتيجية حول الدور، والحضور، والمكانة، للقوى الكبرى، سواء في المنطقة أو حتى في الشرق الأقصى. أما ما تحاول الإدارة الأمريكية تجنبه، فهو التورط المباشر في صراع عسكري، قد يُسفر عن خروج «عفاريت الإسلام السياسي» من القمقم، أو يفتح الباب لاستنزاف طويل للقوة الأمريكية، التي لم تعالج بعد جراح التدخل في أفغانستان والعراق. علاقة ملف سوريا، بملف إيران النووي، قد تتيح للدبلوماسية العربية إمكانية، توفير محفزات، أو استثارة مخاوف لدى واشنطن، من شأنها زحزحة الموقف الأمريكي من منطقة التردد إلى منطقة الحسم، ولعل حديث الرئيس الأمريكي أوباما أمام اللجنة الأمريكية- الإسرائيلية للشؤون العامة «ايباك»، الذي عكس إصراراً على مواصلة الضغوط على طهران «لإقناعها» بالتراجع عن برنامجها النووي، يصلح «مفتاحاً عربيا» لإعادة صياغة الموقف الأمريكي من الأزمة السورية، فإسقاط النظام السوري، قد يكون أكثر صور الضغط على طهران تأثيراً، لأنه سوف يعني ببساطة أن ضرب طهران بات أقل كلفة، فضلا عن أن هدف إسقاط النظام لا يتطلب بالضرورة خوض حرب عالية المخاطرة، طالما أن ثمة ثوار مسلحين يعملون على الأرض وفق نفس النموذج الليبي. سوف يعني انشغال النظام السوري بمواجهة ضربات موجعة، تقليص قدرته، ليس على دعم طهران فحسب، وإنما حتى على مواجهة قوات الثوار في مختلف مناطق سوريا. في السياسة وفي الحرب، تماماً كما في البزينس، هناك دائما حسابات تكاليف وأرباح وخسائر، حيث لكل قرار كلفته، وبحساب التكاليف فإن بناء موقف أمريكي داعم للثوار السوريين على الأرض، قد يكون أقل كلفة بكثير من خوض حرب شاملة ضد إيران، فضلاً عما قد يعنيه ذلك بالنسبة لرئيس «ديمقراطي» مثل أوباما، من اتساق القول مع الفعل بتأكيد انحيازه لقيم الليبرالية، ونصرة الشعوب المتطلعة للحرية، وأخيراً فإن إخراج الأسد من حسابات المنطقة، سوف يجعل المواجهة مع برنامج طهران النووي أقل كلفة بالضرورة. في مستهل رئاسته عام 2009 تعهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتجنب خوض حروب في المستقبل، وقال إنه سوف يتبنى منهجاً يعتمد على «التفاوض وبناء التحالفات»، وهو ما حاول الالتزام به طوال فترة رئاسته حتى الآن، وطوال الأزمة السورية.. وفي إطار النهج ذاته، قد لا ترى واشنطن بأساً في محاولة إغراء موسكو بالتخلي عن نظام الأسد إذا ما ضمنت الولاياتالمتحدة للروس، استعادة مديونياتهم لدى دمشق (ثمانية مليارات دولار)، والاحتفاظ بمزايا أمنية واستراتيجية في سوريا، مثل محطتين للتنصت الإلكتروني، وقاعدة بحرية في طرسوس. أوباما يرى أن سقوط النظام في سوريا بات حتمياً لكنه يستبعد في نفس الوقت أي تدخل عسكري أمريكي ضد النظام ولو عبر ضربات جوية، وإن بدا واثقاً من تحقيق هدفه باستخدام ثلاث أدوات هي: توحيد المعارضة السورية.. عزل النظام السوري دوليا وهو ما بدأ بالفعل.. تشديد القيود المالية والمصرفية على سوريا. وفيما يبدو فإن عواصم غربية أخرى تشاطر الرئيس الأمريكي رؤيته، مؤكدة أن السقوط حتمي لكنه سيستغرق بعض الوقت (شهور بحسب تقدير لندن). للمفارقة فإن صراع واشنطن مع نظام الأسد، قد يجسده صراع النسر الأقرع الأمريكي (شعار الولاياتالمتحدة) مع النسر الأقرع «التدمري» في سوريا، فالأول استطاع بموجب برنامج حماية أمريكي للحياة البرية أن يقاوم خطر الانقراض، فيما يشكو نسر تدمر «الأقرع أيضا» من عوامل انقراض تتكاثر حوله وتهدد استمرار نوعه.. ترى هل يفكر أوباما في إسقاط نظام الأسد من أجل إنقاذ الحياة البرية وحماية النسر الأقرع السوري من الانقراض؟! مجرد سؤال استنكاري إذا عَدِمَ الأمريكيون دوافع التدخل لإنقاذ أرواح ملايين البشر في سوريا.