في سوق المدينة المركزي، وفي أجمل شارع فيها، برزت مكتبة صغيرة لبيع الكتب والمخطوطات النادرة، وعلى الرغم من ضيق المساحة فإن المكتبة كانت تلبي كل الطلبات، يزورها المهمومون بالفلسفة والتاريخ والفنون والعلوم من سائر أنحاء القطر وكانوا دائمًا يجدون ما يبتغون، حتى سرت مزحة في المدينة أن الورّاق صاحب تلك المكتبة البديعة جنّي. إن أنت زرت المكتبة وهي مصممة من الخشب العتيق الفخم المطلي باللون البني الفاتح ورأيت النقوش السوداء على الخشب كالوشم على السواعد، ورأيت نوافذها وأبوابها المزخرفة ذات الأقواس والحواشي، وشممت رائحة الصندل الدائمة، وعبير الكتب الأخّاذ، ثم إنك إن تطلعّت إلى أرفف الكتب النسيقة ثم أسلمت بصرك أخيرًا لجاذبية عيني الورّاق ولحسن ملابسه وطلعته وحركته داخل المكتبة، لتملكك الهاجس نفسه الذي سرى في المدينة ولضحكت في سرّك ولتعجبت. عينا الورّاق لامعة وابتسامته تنفرج أو تضيق مع درجة أهمية الكتب التي يناولها للراغبين، ولكنها ابتسامة في نهاية الأمر، هو ورّاق صامت ورشيق وعمله متقن وصارم ويعطيك إحساسًا أكيدًا بأنه قرأ كل تلك الكتب التي يتعامل معها كما مع أبنائه. كان الكشك عاليًا وارستقراطيًا. وكان صاحبه عالمًا، عالمًا وأريحيًا. قيل لي إن ذلك الورّاق لا يظل صامتًا حين يعود إلى داره بل تنعقد في بيته ندوات يناقشون فيها كل أربعاء كتابًا جديدًا - حيث - قيل لي - تكون مداخلات الورّاق شائقة ومثيرة دائمًا لاهتمام الحضور. وهكذا عاشت مدينتنا سنوات تنعم بهذه الخدمة الراقية إلى أن حل يوم اتخذ فيه محافظة المدينة قرارًا بنقل الكشك من موقعه ذاك النادر إلى الشارع الثاني بنفس السوق، وهناك أصبح الكشك واطئًا بعض الشيء ولعل حركة النقل العنيفة كسرت بعض أضلاعه وذهبت ببعض طلائه - وقلّت حركة البيع بالكشك شيئًا فشيئًا، فانتقصت ابتسامة الورّاق أوقية ودرهمين. ثم مرّت سنة فنقل الكشك إلى طرف السوق وهناك لجأ الورّاق إلى بيع الصحف السيارة وكف عن الابتسام. ثم حل مدير إداري للسوق فاتخذ قرارًا بنقل الكشك لحي (سواكن) وهناك نقصت ابتسامة الورّاق رطلًا. رغمًا عن كون حي سواكن راقٍ فهو مع عمرانه الجميل ليس كمركز المدينة على كل حال. وبعد ستة أشهر اتخذ عمدة ( سواكن) قرارًا بنقل المكتبة إلى أطراف الحي هناك حيث رأى الكشك بعينه الناقدتين المباني الحديثة التي لا يقطنها إلا حراسها. وهكذا استيقن الكشك أنه لا فائدة من الاستمرار في مهمته النبيلة. ومضت أيام اختفى خلالها الورّاق. وظهر في الكشك بدوي سريع الحركات يرتدي جلبابًا وتنجر خلفه عمامة عجولة. وكان البدوي يدخل بالطناجر ويخرج بالجمر والفول والصلصة ويصيح بالحناجر. وكانت الأطباق من البلاستيك. وعندما أعلن الكشك عن تذمره برمي إحدى أخشابه أوجعه صاحبه الجديد بالحديد ضربًا وشاكه بالمسامير ورتقه بلوح من الزنك. واتخذ المحافظ الجديد قرارًا ثوريًا فحواه نقل كل الأكشاك إلى سوق (ألبان هسه) النائي الذي تضرب إليه أكباد الحافلات. وهناك حل بالكشك صاحب جديد، وهو عجوز مجرب، يجلس طوال الوقت داخل الكشك تراه فتقول إنه لا يبيع شيئًا علمًا بأن معظم عمليات البيع تتم بالفراسة والعيون والمناولة الصامتة. وهذا الشيخ يشبه الورّاق في الصمت. ثم اتخذ المحافظ الثائر قرارًا جديدًا بتوزيع الأكشاك مرة أخرى. لكن التوزيع تمّ على الأحياء العشوائية وكانت المكتبة العتيقة من نصيب حي (الأميين). وهناك تحولت المكتبة العتيقة إلى مخزن للفحم تمتلئ بالسواد كأنما تعلن بذلك عن حدادها على مآلها. ومرّت سنوات شاخ فيها الكشك وغلب عليه الحديد والصدأ. واتخذ المحافظ الهمام قرارًا بهدم جميع الأحياء العشوائية وأكشاكها معها وجاءت آليات ضخمة حملت الكشك خلف مقبرة الشاحنات وهناك ألقوا به فأقعى رأسه في بطن خور وأسفله أعلاه. وصار مخلوع الأبواب والنوافذ تمر عليه الأتربة وهو في حال انكفائه تلك دهرًا إلى طواه النسيان ثم ذهب في دورة العناصر. الخرطوم 1992