والعدل في الإسلام ليس عدلا سطحيًّا أو شكليًّا ولكنه عدل سليم وعميق الظلم ظلمات.. والظلم ضياع.. والظلم هلاك.. وقد حكى القرآن الكريم كيف يقود الظلم إلى السقوط والهلاك، بانتقام الله (سبحانه وتعالى)، ومن قوله: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) (الكهف-59) وفي المقابل يقودنا الاستقراء التاريخي إلى أن الإيمان ب"العدل" كقيمة إنسانية عظمى، ينطلق منها بقاء المجتمعات ونهوضها وتقدمها وقوتها وعظمتها وشموخها، وسيادة الأمن والطمأنينة والسلام الاجتماعي فيها. لذلك كان العدل من أهم أسس النظام الإسلامي، وهو قاعدة تلزم المسلمين جميعًا، كلاّ في مجاله، وخصوصًا الحكام يقول (تعالى): (إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء-85). والعدل في الإسلام ليس عدلا سطحيًّا، أو شكليًّا، ولكنه عدل سليم وعميق، ولا يسمح لصاحبه أن يحيد عنه قيد أنملة، أو يسمح لعاطفته أن تغلب عليه، مدفوعًا بحقد أو نقمة أو هوى، يقول (تعالى): (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة-8). والعدل في الإسلام ذو مفهوم شامل، لا يقف عند حد، ولا يعجز أمام قويّ لقوته، ولا يهوّن من شأن ضعيف لضعفه، بل القويّ في الإسلام - كما قال أبو بكر (رضي الله عنه)- ضعيف إلى أن يؤخذ الحق منه، والضعيف قويّ حتى يؤخذ الحق له. ولذلك، لما اشتد إيذاء المشركين للمسلمين في مكة طلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ممن يستطيعون منهم أن يهاجروا أن تكون هجرتهم إلى الحبشة "لأن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد"، مع بعد الشّقّة، واختلاف الدين، مما يؤكد أن الإسلام ينظر إلى "العدل" كقيمة عليا، بصرف النظر عن اختلاف الأديان، فالمعروف أن أرض الحبشة ليست أرضًا عربية، وأن أهلها من النصارى، ولا يتكلمون لغة العرب، ومع ذلك كان العدل هو المنشود المرجوّ المطلوب. وبالعدل تشتد قلوب الرعية، وتعيش في طمأنينة وسلام ، وتحيا صادقة الإخلاص ، كاملة الولاء للعقيدة والأرض والراعي، وتسترخص الفداء والتضحية بالنفس، وبكل غالٍ ونفيس. ومما يرويه التاريخ - بفخر واعتزاز- أن خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز (-63101ه) كتب إليه أحد عماله (ولاته)، يطلب منه أن يُقطعه مالا (أي يحدد له ميزانية) لترميم المدينة التي يتولى أمرها، ويبني حولها سورًا يحصّنها به، فكتب إليه الخليفة عمر بن عبد العزيز ردّا، يقول فيه "...بل حصّنها بالعدل، ورمّمها بتنقية طرقها من الظلم..". ولم يبالغ عمر (رضي الله عنه)، فالسور الحجري سرعان ما ينهار تحت أقدام الأعداء إذا كانت الأمة مظلومة مرعوشة الكيان، لا تستشعر الولاء بسبب ظلم حكامها، أما "السور البشري" من مواطنين يعيشون العدل، بكينونة قوية شامخة فهو الأقوى، والأثبت، الذي لا يسقط ولا يهون. * أديب ومفكر إسلامي .