«أقواس ونوافذ» هي رحلة تأمل تغوص فيها الساردة لتلامس واقعًا من خلال نماذج من الشخصيات المثيرة، عبر نصوص متشابكة ومتوحدة، مشتغلة وفق وحدة تامة تفرض على المتلقي تصورها وتأويلها حسب طاقته ومفهومه واستيعابه لها كما يلاحظ أن أشخاص الساردة تبقى حبيسة اللحظة المعيشة تحدوها الرغبة في الانعتاق من قيود الزمن للتحرر من لحظات الإحباط المهيمن على الذات والواقع.. والساردة حاولت التركيز على النفسية المشحونة من خلال المشاعر المتصارعة، مانحة المتلقي رؤيا فوق بساط يمتزج فيه العجائبي بالواقع.. لنأخذ بعض القصص نموذجًا، مثلا: أرق (تحلقوا) هذه إحالة مقامية أي خارج النص، المحال عليهم غير معروفين وغير موجودين ينوب عنهم واو الجماعة بمعنى أنهم مجموعة كبيرة، تحلقوا ليناقشوا لكنهم لم يفلحوا فناموا طويلاً، طبعًا مثل هذه النصوص الرامزة تكون لها أبعاد كثيرة وقراءات متعددة فهي من النصوص المنفتحة على التأويل والقراءات المختلفة، ترى ما هي الأشياء التي تؤرق فئة من هذا النوع؟ فئة ترفع صوتها تتألم تبكي،إنها طبعًا الفئة المهمشة، الفئة التي تعاني الفئة المتضررة، ثم تفرقوا قد تعني عدم الاتفاق بعد أن استنفدوا كل الطاقات وفي مثل هذه المواقف تظهر الفئات النفعية البراجماتية التي تنظر لمصلحتها الخاصة فقط وتبيع الآخر، ويظل الأرق قائمًا رغم النوم الطويل لأنه في النهاية نوم وسيصحوا أصحابه على خيبة الأمل يراهن النص على بعض الأنساق الفكرية التي تكون وراء الأرق ولما يفقد الأمل يعود المتضررون للنوم، ومن خلال صيغة الخطاب يبدو أن الساردة لا تتفق مع الحل النهائي بل تتحسر وترى ذلك انهزامًا. فساد لقد عم الخراب المدينة بسبب الفساد وسوء التدبير، تعددت مجالات الفساد بتعدد المفسدين، وكالعادة دومًا (بحثوا) الضمير يعود على المعنيين بالأمر، هؤلاء أرادوا أن يعرفوا الأسباب وراء تردي الأوضاع، وعوض أن يستأصلوا المرض من أصوله وبدل أن يبحثوا عن الحلول الجذرية كانوا يلجأون إلى الحلول الترقيعية (وجدوا مجموعة من الفئران.. أعدموها) طبعًا لم يكن كافيًا إعدام الفئران، إذ لا زال الدمار يعشش، ويستمر البحث في عمل سيزيفي لا ينتهي؛ لأن الحلول الترقيعية ترمم فقط ولا تهد لتبني على أسس، هذا النص له قراءات متعددة ورهانات كثيرة من بينها الوضعية التي تعيشها المجتمعات الهشة التي تعاني من مشاكل في الإدارة والتسيير وتدبير المال العام،للنص أبعاد اجتماعية وسياسية،تبين أن الفساد حين يتجدر في المجتمعات يقتضي الأمر البحث الجدي عن الدوافع والأسباب التي كانت وراء كل المشاكل للوصول إلى سبل ناجعة وحلول موضوعية بناءة،ويعتبر القضاء على الفساد خطوة جد هامة لتقدم المجتمعات ومسايرتها الركب الحضاري. لسان لم يطل الانتشاء بالنصر، لم يطل الجلوس على المقعد كثيرًا تصحبه ابتسامة النصر عندنا مؤشران يبينان أن الأمر يتعلق بمنصب، هذا المنصب في الغالب منصب سياسي اللسان مؤشر دالّ على الصوت (تكاثرت عليه الألسن.. يقع من مقعده) لقد كان اللسان سبب تربعه على المقعد وفي ذات الوقت هو سبب تزحزحه.. الضمير يعود عليه هو صاحب المنصب الذي وصل إليه بطريقة غير موضوعية،وهكذا تكون للنص دلالات وأبعاد اجتماعية وسياسية، إذ يعكس الوضع المتردي لمجتمعات العالم الثالث التي تنهض على المحسوبية والزبونية وبالتالي تدفع المجتمعات البئيسة ثمن الاختيار. يعكس النص وضع المجتمع المتخلف المرتبط بالمقعد دون كفاءات، دون مهارات مهنية ومصداقية علمية تضع الإنسان المناسب في المكان المناسب حتى تمشي الأمة قدمًا، في غضون سلوكات كهذه سيبقى التخلف سيد الموقف وستجف ألسن وستتكلم ألسن وستصرخ ألسن وستلتصق أخرى واللسان مرتبط عادة بالكلام وهي ميزة عرفت بها الشعوب المتخلفة التي تكثر القول بدل الفعل. هو وهم بعد غربة طويلة عاد المغترب إلى أرض الوطن ليعيش غربة من نوع آخر،ففي الغربة كان هو (لأكون أنا،أنا) أي ليكون الشخص الذي يهواه ويطمئن إليه،عاد المغترب يحمل حقائبه لأنه لم يعد يعرف أحدًا، لم يجد أحدًا ينسجم معه كان الآخرون يرسمون به أمانيهم،يريدونه كما يرغبون،التفت إلى نفسه وجدها ضائعة بين الأنا والهُم،ففضل البحث عن الذات من جديد،لأن غربة المكان أقل ضررًا من غربة النفس عن نفسها،وكما نلاحظ فالنص يضع الأصبع على ظاهرة مهمة عرفتها المجتمعات العربية بالخصوص في السنوات الأخيرة،وهي تأثير العالم الآخر على حياة الإنسان،صحيح أن النص لم يحدد مكان الغربة هل هو غرب أم شرق،لكن في كل الحالات هي غربة تشتد وتستفحل درجتها حسب نفسية المغترب،النص له أبعاد نفسية اجتماعية تمثلت النفسية في حالة التوحد وسط أشخاص لا يحملون نفس الهموم والهواجس وتمثل البعد الاجتماعي في اختلاف الثقافات والأعراف والتقاليد والتي يأخذ منها المغترب، يتشربها رغمًا عنه لكي يتعايش فيجد نفسه منساقًا في ثقافة جديدة بشروط جديدة ومعطيات جديدة،يصبح مستلبًا يعبر عن انتماءات مختلفة من حيث لايدري، النص يبين لنا أن الغربة تغير الإنسان ماديًا ومعنويًا، وأن الوطن يكرس غربة من نوع جديد إذا لم يساير الركب الحضاري ويتأقلم مع المجتمعات في غضون العالم الرقمي وفي غضون العولمة الكاسحة. تعادل تعادل في النتيجة الأخيرة لكن تفاوت على أصعدة كثيرة،قرأت كتابها والأخرى قرأت، واختلفا في الذوق وفي عملية تثمين الكتاب المقروء،النص يعكس بجلاء اختلاف الأذواق والمشارب في التعامل مع الإبداع،وهنا تطرح فكرة أدلجة الفن،فكل واحد يقرأمن وجهة نظره الخاصة وحسب مرجعياته وخلفياته ومن ثمة يتكون لكل واحد منا ذوق معين لأن الذوق لا يتأتى من عدم أو من فطرة كما يعتقد البعض وإنما الذوق يربيه الإنسان ويرعاه فيكون كما يشاء،ومن هنا تضرب فكرة الفن من أجل الفن لذا أصحابها والذين يرون بأن الفن يكون لهدف واحد وهو الإمتاع،ولو كان الأمر كذلك لما وجدنا الجمال يُرفض عند البعض لا لسبب إلا لأنه لا يخدم قضية أو يعبر عن قضايا فئة من الفئات،النص يبين أن معايير الجمال تختلف من شخص لآخر،فهي نسبية،ومبدأ النسبية مهم جدًا خدم العلوم البحثة وخدم العلوم الإنسانية بشتى أنواعها،وأصبح الاختلاف ظاهرة صحية تساعد على الابتكار والتجديد المستمر،وللنص أبعاد اجتماعية أيضا '' فهي وهي» قد يجمعهما سقف واحد ومع ذلك يختلفان والابتسامة الأخيرة تبين أن الاختلاف لا يفسد للود قضية. نقص نص ذو أبعاد فلسفية وصلتنا عبر خربشات امرأة (تشعر بملل يجترها) هذه التمثلات الفلسفية تبين أن الإنسان يبقى ناقصًا ما دام محدود العقل والتفكير،هذه المرأة رسمت وجها بعين واحدة، وإن كان جميلاً إلا أنه بعين واحدة ومن هنا يتجلى لنا النقص،على مستوى الصورة، يبدو في البداية وكأن النقص خارجي على مستوى الصورة إلا أننا نفاجأ بالساردة تضيف (تنظر إلى الأفق تطل عليها عين واحدة تبحث عن وجه تسكنه)، فكلمة تطل تفيد أن الحركة كانت من أعلى، كانت هذه العين هي الأخرى تبحث عن وجه تائه، تكتمل الصورة الخارجية إذن بعودة العين الثانية على مستوى الصورة الخارجية لكن يبقى النقص داخليًا يكمن في مدى تطابق العين الجديدة مع الوجه الجديد للنص أيضًا أبعاد وجودية تتمثل في التمزق الذي يعرفه الإنسان،الشعور بالضياع والملل وسط الزحام والضجر، ويختزل قلق الإنسان الدائم، للنص رمزية ماتعة تكمن في توظيف الرسم كأداة لبسط وضعية مريرة من الألم والسأم.. وقلم الرصاص القابل للمسح والتغيير كلما احتاج الرسام لذلك فالواقع تلك الصفحة والخربشات تجارب تتعاقب وتتكرر بالخطأ مرة والصواب مرة أخرى، والمتنفس الأفق الشاسع الذي يشمل الملكوت، الأفق الجدير بالتأمل كلما ضاقت الأرض بأصحابها، أتت كلمة أوراق «في النص بصيغة الجمع مما يدل على تكرار الحالة»،أيضًا محاولة الانعتاق لم تكن لأول مرة بل سبقت بغيرها. قصتي هي قصة كاتب يعاني روتينا قاتلاً لا يغير المكان ولا الوجوه التي اعتاد رؤيتها كل يوم، ينزوي في ركن قليل الضجيج يبحث عن سكينة القلب؛ ليكتب القصص،كان مدمنًا على الكتابة ورسم الشخوص كما يبتغي،كان يضع النهايات كما يبتغي إلا قصة حياته عجز أن يجد لها مخرجًا فظل يبكيها عزلة وتشظي ذات ملتهبة تعشق الآخر لكن بلون مختلف،ذاك الآخر الذي يرسمه فنان،والنص في أبسط تجلياته يعكس ظاهرة إنسانية تنتاب الفنان الكاتب مرهف الإحساس الذي يعاني من اختلاف المحيط مع ما يحلم به كما يعكس النص التفرد في المكان الذي لا يسع ذهن مبدع يطمح للأفق في رحابته، وقد توحد ضمير المتكلم أنا مع الساردة (الكاتبة) فأعطانا رؤية سردية من الخلف تتعمق في الدواخل والأبعاد الوجدانية... وهكذا استطاعت الكاتبة شيمة الشمري أن تصوغ المجموعة القصصية على لمعان الفكرة وإثارة الدهشة في تصوير الشخصيات/ المجتمع من زوايا تمتح من المعاناة والحلم وبلغة تصريحية موحية باختلال كفتي الميزان حيث التشقق والخلل في روح العصر. والمجموعة القصصية ''أقواس ونوافذ» تستحق التأمل أكثر لما تتضمنه من ثيمات متعددة جديرة بالاهتمام حيث اتسمت بأسلوب الرصد لمظاهر حركة الناس والحياة، وقد تركت باقي قصص المجموعة للمتلقي لاكتشاف جمالية النص وروعته ومدى تأثره وتفاعله مع شخصياته. المجموعة قصصية (أقواس ونوافذ) صادرة عن دار المفردات للنشر والتوزيع، الرياض 2011 الطبعة الأولى. * ناقد أدبي مغربي