يرى مراقبون أن رياح ثورات الربيع العربي التي اعتبرت الملمح الأساس في المشهد العربي خلال العام 2011 لم تهب على فلسطين، ليس ذلك فحسب، وإنما خلت لافتات تلك الثورات من التطرق إلى الشعارات التي تعبر عن تأييدها للقضية الفلسطينية، بل بالعكس من ذلك تسابقت الأحزاب المتنافسة، بما في ذلك الأحزاب الإسلامية- على تأكيد تمسكها بمعاهدة السلام مع إسرائيل، ووصل الأمر بالرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي إلى القول: «هل سمعتم تلك الثورات ترفع شعارات ضد إسرائيل؟»، وسمعنا تصريحات تصدر عن مسؤولين أمريكيين بأن واشنطن ليس لديها أي مانع في التعامل مع (الإخوان) إذا ما وصلوا إلى الحكم، ورأينا مرشح الرئاسة السابق جون كيري يطلب الاجتماع مع أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر. لكن البعض الآخر يرى أن يوم 8/12/1987، اليوم الذي اندلعت فيه انتفاضة الحجارة، بأنه الانطلاقة الحقيقية لثورات الربيع العربي، باعتبارها الانطلاقة الكبرى نحو الحرية والعدالة والتحرر من الظلم والاستبداد والطغيان. وصحيح أن الانتفاضة التي فجرها الطفل الفلسطيني بسلاحه البسيط (المقلاع) تعثرت عندما استخدمت إسرائيل في قمعها أحدث أسلحة القتل والتدمير، إلا أن جذوتها ظلت مشتعلة لتتقد مرة أخرى في القدس في سبتمبر 2000، وظلت تنقل اختراع أطفال فلسطين العجيب (سلاح الحجارة) إلى العالم كله عبر العقدين التاليين، لتندلع مرة أخرى في تونس عبر ثورة الياسمين لتنتشر بعد ذلك في دول عربية شتى معلنة حربًا لا هوادة فيها على ثالوث الاستبداد والفساد والتردي الاقتصادي. السؤال الرئيس الذي يفرض نفسه في هذا السياق: لماذا غابت القضية الفلسطينية، أو كادت أن تغيب عن شعارات الثورات العربية؟ ولماذا لم تصل رياح تلك الثورات إلى غزة ورام الله رغم الفساد المستشري وتقلص مساحة الحرية والديمقراطية في الساحة الفلسطينية؟ وهل كان ينبغي على الشعب الفلسطيني الثورة على فساد السلطة وحماس، والإصرار على التمسك برموز الفساد وتعثر الإصلاح والمصالحة؟ في الإجابة على تلك الأسئلة يمكن القول بأنه كان من الطبيعي أن تركز ثورات الربيع العربي على الهموم الداخلية (الديكتاتورية - الفساد وتردي الوضع الاقتصادي)، وهو أمر يظل مفهومًا باعتباره السبب الحقيقي لاندلاع تلك الثورات، بل إن مجرد رفع أي من تلك الثورات لشعارات تحرير فلسطين كان يمكن أن ينظر إليه على انه تكرار لما كانت ترفعه الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية باعتباره البوابة التي يمكن لتلك الانقلابات المرور من خلالها إلى الشرعية وكسب التأييد الشعبي. الفلسطينيون بدورهم آثروا الانتظار حتى يروا الملامح الحقيقية لتلك الثورات، بعد أن تولدت لديهم العقدة بأنه ليس بالضرورة أن تكون الثورات العربية مساندة لهم. المثال على ذلك الثورة العراقية التي أطاحت بالطاغية صدام حسين بالدعم الأمريكي، فقد جاءت تلك الثورة بنظام أكثر ديكتاتورية وأكثر فسادًا وأقل عداوة لإسرائيل. بيد أن الموضوعية تقتضي القول بأن الفلسطينيين أفادوا من ثورات الربيع العربي، فأصبحوا أكثر حرية في التعبير عن مواقفهم السياسية، بعد أن كانت تلك المواقف تملى عليهم، تارة من القاهرة، وتارة أخرى من دمشق، كما أن الثورات العربية ساهمت بقدر كبير في دفع عجلة المصالحة الفلسطينية، والتوافق بين فتح وحماس على المقاومة السلمية، وتحقيق إنجاز وطني يتمثل في إعلان حماس الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعدم الممانعة في الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 67. ويرى مراقبون أن الانتصار السياسي الذي تحقق للفلسطينيين خلال العام 2011 من خلال الخطاب التاريخي للرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي ألقاه في الأممالمتحدة في شهر سبتمبر الماضي، ثم اعتراف اليونسكو بفلسطين كدولة كاملة العضوية، واعتراف العديد من دول العالم بالدولة الفلسطينية إنما تم في ظل تل الثورات، آخر تلك الحقائق تصريح لحنان عشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بإمكانية أن تلجأ المنظمة إلى إلغاء اعترافها بإسرائيل كأحد الخيارات المطروحة في حالة استمر التعنت الإسرائيلي والتملص عن الوفاء باستحقاقات عملية السلام، فهكذا تصريح لم يكن مقبولًا من القاهرة في عهد الرئيس مبارك. كما ينبغي الملاحظة بأنه يبدو من الواضح أن الإخوان المسلمين تعلموا من أخطاء الماضي، وأصبحوا أكثر برجماتية في التعامل السياسي مع الآخر، سواءً على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ويبدو أنهم درسوا وتمعنوا جيدًا في تجربة حزب التنمية والعدالة التركي. وجاء الاستقبال الحار لزعيم الإخوان المسلمين محمد بديع في مصر لرئيس الحكومة الفلسطينية المقالة اسماعيل هنية مؤخرًا ليثبت أن حماس تدرك جيدًا حقيقة موقف الإخوان المسلمين في مصر. لكن يبقى السؤال معلقًا: هل تصل رياح ثورات الربيع العربي في العام 2012 إلى غزة ورام الله؟ وهل تكون الثورة ضد الفساد الداخلي أم ضد الاحتلال الغاشم أم ضد الاثنين معًا؟ الإجابة ستتوقف على مدى استجابة السلطة وحماس لتحديات المرحلة: المصالحة الحقيقية - حكومة الوحدة الوطنية - الانتخابات، مكافحة حقيقية للفساد والتمسك بالثوابت الوطنية، وتفعيل جميع أدوات النضال ضد المحتل.