الولد الذي انفصلت أمه عن أبيه، لتتزوج بعد ذلك من رجل آخر، وترحل إلى قرية أخرى، لم يستطع أن يفهم لماذا هجرته؟ ولماذا أودعته حضنًا آخر غير حضنها؟! الأم التي كانت لا تأتي للسلام عليه إلاّ لتتركه ثانية، حتى حين يتلعثم، وهو يطلب منها البقاء.. يرتمي في حضنها، يرجوها، فيماهي ترحل دائمًا، ولا تعود إلاّ نادرًا. الولد الذي يحب أمه بطريقة نادرة: يجمع الحجارة من الأرض، ويتعقبها وهي راحلة.. يقذفها بالحجارة وهي لا تلتفت!! أيّ نوع من الحب ذاك الذي لا تستطيع أن تعبّر عنه إلاّ الحجارة؟ إنه حب مشوب بالرفض والاعتراض.. (انتفاضة) الولد في مواجهة قسوة الحياة، وعذابات الرحيل!! أيّ حجارة تلك التي تتعقب الأم ولا تصيبها؟ إنها الكلمات التي تجود بها الأرض، لكل من يخونه لسانه، أو يتلعثم في أحرفه الغضة.. هي لغة البناء في البيوت الطينية القديمة.. هي لغة جارحة حين يختصم الأولاد فيما بينهم أحيانًا يتكلمها عاشقان من نوع خاص: يرسلها عاشق ما، إلى نافذة ما، حيث حبيبته التي تنتظر بولهٍ خلف النافذة.. أو يرسلها الولد العاشق في إثر أمه لكي تلتفت ولو لمرة واحدة "ولو أنها نظرت إليّ بعينيها الحنونتين، ووجهها الباسم المليء بعواطف الحب والشفقة نحوي. لو أنها فعلت ذلك لتبخرت أحقادي نحوها...". هكذا كتب الولد فيما بعد، حين أدرك أنها لم تكن تلتفت لكي لا يرى عذابها ودموعها، ويزداد تعلّقًا بها. ومن يدري: ربما لو التفتت، لما ظل الولد ولدًا يتعقب الحياة بحجارته!! كبرت الأم فأصبحت وطنًا، وكبرت الحجارة فصارت كلمات، وكبر الولد لكنه ظل "طفلاً يلهو بالحياة" -على حد تعبير الشاعر محمد العلي- رأى في الوطن ما لم يره آخرون، فاختار ذلك الجانب الذي يلهو به الناس على شفاههم، وفي ليالي سمرهم، وعلى ألسنتهم الدارجة، دون تصنع لغوي، أو حذلقة تاريخية.. الأساطير والحكايات والأمثال الشعبية: هكذا تلهو الشعوب، وهكذا يصبح حديثها متعة، وتاريخها حياة، ولغتها نبضًا، وملعبها ساحة عبدالكريم الجهيمان الأثيرة. في مسيرته التي امتدت لقرن من الزمان، ابتداءً من الحضن الأصغر، وانتهاء بالحضن الأكبر، ظل في حالة شغف دائم إلى الدفء المفقود.. يتعقّب أمه ووطنه بالحجارة والكلمات محبة لا انتقامًا!!