لامعقول! اجعلونا (نديرها) اليوم كتابة جيمس جويس..لا أقول كتابة عبثية على غرار صموئيل بيكيت ويوجين يونسكو..تلك النصوص التي توحي بدهشة الانسان وغرابته وفقده لمعنى وجوده وحياته كلها,بالتزامن مع لغة عبثية(كذلك) تصور ذلك الخواء الانساني!..فالانسان عندما يفقد معناه الوجودي في عالم(مابعد الحداثة) يفقد لغته التي يشير بها إلى سمات علاقته بالواقع والآخرين..ولكن نصوص جيمس جويس الخالدة يمتزج بها الحقيقي مع الخيالي, والواقعي مع الغرائبي,والزمن الماضي مع الزمن الحاضر,والرؤية مع الرؤيا..أقول لكم:»بلاشي من جويس..فلماذا هو الآن؟,أو بالأحرى.. كتابة جويس فين, وكتابتي فين؟»..على العموم..فإن ماقاله(جورج)لي,ليسرد أحداث حلمه العجيب هو الذي أحضر جويس عبر (صورة شبابه)إلى نثاري هذا..(جورج)هذا صديق بريطاني,يعمل في إحدى الشركات السياحية بلندن..مؤمن ومتفائل وعلى قدر عال من التعليم والثقافة,كانت رسالته للدكتوراة التي يشتغل عليها الآن موضوعا من موضوعات الأدب المقارن,(يربط) فيها بين أراجون و(مجنون ليلى),كما هو التأثر والتأثير بين قصة رسالة الغفران لأبي العلاء المعري و(الكوميديا الإلهية)لدانتي..(جورج) هذا يارفاقي يعيش الآن في أتون أزمة نفسية حارقة,يتعالج على إثرها في احدى العيادات النفسية شمال العاصمة..أزمة(جورج) الداخلية كانت في ذلك الحلم العجيب(الكابوس)كما يقول,والذي حلم به في الأيام الأولى من شهر سبتمبر لهذا العام.. (حلم جورج ) رأى جورج-فيما يرى النائم-كأنه انتقل فجأة إلى عالم آخر لايمت إلى عالمه الإنجليزي بأدنى صلة,ولا يرتبط بشخوصه بأي نوع من العلاقات.رأى جورج أنه وسط قوم آخرين,مختلفين عن الذين ألفهم عمرا مديدا..كان هؤلاء يقومون بحملة تشجيعية من أجل تبديل الرجال بسيدات للعمل في محلات الملابس الداخلية النسائية,التي يعمل فيها إلى اللحظة هؤلاء الرجال المتأنقون,ويدخل لها النساء خفية عن النظارة (المحرجين!).هذا المشهد الأولي أوحى لجورج بأنه داخل فضاء رجعي .,وهو يعيش لحظته الحاضرة في مدينته المتحضرة العريقة,التي لايحدث فيها أمر جلل كهذا(بالطبع)!يجعل أبرز مطالب الانسان امرأة تبيع لمثيلاتها أغراضهن الخاصة(جدا)..!ينتقل حلم جورج إلى جماعة يعيشون في احدى المدن الكبرى ..كانوا يكتبون شيئا يشبه الرسائل إلى مسؤولي مدينته يناشدونهم فيها أن تصل نعمة الكهرباء لأحيائهم الجديدة التي تغط في ظلام القرى البعيدة البعيدة!مشهد لاشك أنه أكد لجورج أن تخبطه في مجتمع غريب لايزال أفراده ينشدون المطالب الحياتية الأولية..كهرباء..كهرباء!!ينتقل جورج في رحلته إلى قوم يجتمعون لاحتفالية ما,يتبارى المحتفلون بها لإبراز مكانتهم العريقة المجيدة بالنسبة إلى الأقوام الأخرى..مقاعد وثيرة ومنصة جميلة وضيافة رفيعة وحضور كثيف,والمحصلة الفخر فقط في أفراد هذا الربع ..!كان هذا المشهد غريبا على ذاكرة جورج التي اعتادت أن يكون ذلك المشهد لمجموعات بشرية تجري انتخابات ما,أو تناقش أمر الذهاب بالأبناء عبر باصات مضمونة للمدينة الإلكترونية,أو للمكتبات العامرة ,أو تستمتع بعمل مسرحي أو سينمائي أو موسيقي يسمو بروح المريدين إلى فضاء الدهشة الخلاقة..أما أن يكون كل ذلك الحشد للفخر بأسماء جماعة ما,فذلك هو الأمر العجيب حقا,. لأن الداعي له غير موجود على الاطلاق,كما هي الغاية المنتظرة من ذلك الكرنفال!يذهب الحلم بجورج إلى بناءات يرتادها طلاب بكتبهم المدرسية تفتقر لأبسط مقومات البيئة المعرفية,فلا نظافة ولا(تكييف )ولا وسائل تقنية تخدم العملية التعليمية,ولا شئ سوى هؤلاء الطلاب وهم يقبعون على كراسيهم البائسة ينتظرون الخروج والانعتاق من وحشة المكان, وليس في وجدانهم رغبة أو هدف يريدون تحقيقه,وفي الجهة المقابلة لتلك المدرسة يدخل جورج في بناء يرتدي العاملون به اللون الأبيض,ويزخر برائحة الأدوية و(العلاجات)..إذا فذلك مستشفى القوم الذي وجد جورج نفسه بينهم..زحمة لامتناهية كزحمة الشوارع..وضجيج بشري يتناقض مع طابع المكان..ذباب وروائح منفرة..و(سرائر) لمرضى يحتلون الممرات والردهات..صراخ من زائرين ..مات ابنهم بسبب خطأ طبي فادح وقع فيه الطبيب وهو يهم باستخراج الزائدة الدودية من أحشاء ابنهم المفقود..مشهد ممعن في البؤس !كابوس حقيقي يستسلم له رأس جورج وهو يجول بين قوم لايلوون على شئ....تجد غالبيتهم الكبرى في الشوارع المهترئة بعيدا عن البيوت التي نفروا منها, لأنها تفتقر إلى مايجعل المكان أليفا جميلا يستحقه(الانسان)..شقق مغلقة النوافذ لايظهر منها شعاع لشمس,ولا رائحة لعشب,ولا طيف لكتاب,أو لحوار أسري يشترك فيه الوالدان مع أبنائهما وبناتهما لمناقشة شأن من شؤون حياتهم المتألقة بالمهمات والنشاط و برامج العمل المتعددة..لاشئ..لا شئ..على الاطلاق كان هناك!! (مقاربة الحلم) يحكي لي (جورج)تفاصيل كابوسه فأعرف متحسرا أن تداعيات صاحبي الحلمية قادته إلى احد عوالمنا المحلية..مدينة ما, كمدينة جدة..حتى أنني عندما كنت أقول له مستفسرا :»وهل رأيت مركبات صفراء يزعم أصحابها أنهم يقومون بوظيفة الصرف الصحي الذي تخلو من خدماته المدينة»..أجابني بحدة» نعم نعم.. لقد رأيت تلك الشاحنات تجوب شوارع مدينة الحلم». أقف أمامه مشدوها متألما خجلا,لأن كابوس جورج ماهو إلا صورة بانورامية لمدينة كبرى في احدى فضاءاتنا المحلية..يا(ساتر)..هل وصلنا للحد الذي نصبح فيه كابوسا مقززا للآخرين..؟! (حلم بدرجة الواقع) ولكنهم مع ذلك الكابوس أفضل حال من أجمل واقع نعيشه..جورج ورفاقه قد يحلمون بكابوس مؤرق..أضغاث أحلام,ولكنا نعيش ذلك الكابوس واقعا حقيقيا مؤلما صباح مساء ..رحماك ياالله..و حياتنا تتحول إلى سلسلة من الكوابيس !!! (الواقع/الحلم..صياغة ملك وقادة) ولكن..في لحظة لاتنسى. من صباحات وطننا(الخالص)..تكاد الكوابيس تختفي من جديد,وأنا وجورج نستيقظ على صوت مليكنا المحبوب..خادم الحرمين وهو يعلن عبر مجلس الشورى مشاركة المرأة كعضوة في مجلس الشورى الموقر بصياغة دينية خالصة,والاستجابة لحقها في الترشح لعضوية المجالس البلدية, فأجدني مغمورا بالفخر والفرح وعودة الأمل من جديد..إذ يالها من مفارقة مبهجة..أن تتجاوز مطالب المرأة لديناالعمل في محلات الملابس النسائية-كما ظهر في كابوس جورج- إلى المشاركة الفاعلة في قيادة دفة شؤون هذه البلاد-كما هو الحال في واقع ملك القلوب-لنسمع-سويا- بعد ذلك صوت أحد رجالات الملك المخلصين يعلن عن انقضاء مرحلة(مهمة)في مشاريع تصريف المياه والسيول لمدينة كبرى في بلادنا,فأطمئن إلى وجود هؤلاء الأفذاذ القادرين على طرد الكوابيس ودحرها من مناماتنا و(يقظاتنا)! ..كم هو رائع أن تتحول الكوابيس إلى أحلام وديعة ثم إلى وقائع هانئة!!