لا أحد يستغني عن (النكتة) في ظل هذا الكَبْت - بل إنّ الذي يقول بأنّهُ لا يحتاجها يعاني من خللٍ في شخصيّته دون شكّ، والنكتة بتاريخها ولدت مُتمرّدة جريئة تركُل الأعراف والتقاليد وكُل القيود بكافة أشكالها وإشكالها بقدمها إن كانت (مقيولة) وبقلمها إن كانت مقروءة! بل إنها تبدو ثقيلة دمّ كلما كانت عاقلة أو توحي وتحوي شيئاً من الرزانة، لذلك لستُ هنا بصدد انتقاد هذا الفنّ لذاته - وإنّما هي ملاحظةٌ عابرة أتمنّى أن لا يكون الوقوف عندها عابرًا - انتبهت لها في نهاية الأسبوع الماضي وأنا مع طلاّبي الصّغار في نهاية حصّةٍ أنهينا بها الدرس مبكّراً - وشعرت بمللهم.. لذلك تجاذبت معهم أطراف الحديث بحميميّة بين أنشودةٍ وقصّةٍ طريفة حتى رفع أحدهم اصبعهُ قائلاً: أستاذ عندي "نكتة" تسمح أقولها؟! أجبته: تفضّل! ثُمّ استدركت بدافع الحذر والحيطة وذلك بعد أن خرج أمام زملائه ووقفَ جانبي - انتبه يا ولدي لا تكون غير نظيفة؟! أجاب: "لا يا أستاذ ما فيها شي"!، ابْتَسَمْت في وجهه وقلت: تفضّل، ليبدأ النكتة قائلاً: (مَرّه فيه محشّش راح لَمّ البقالة قال لصاحبها: عندك سُكّر؟ قال راعي البقالة: أيه. قال المحشش: الله يشفيك !!). انتهت النكتة وضحِكَ الفصل وضحكت معهُم مجاملةً - فقد كنت مشغولاً بحكاية "مرّة فيه محشّش"! ليرفع تلميذ آخر اصبعه يرغب في إلقاء نكتة على مسامع زملائه - فأعطيه الإذن ويخرج ويبدأ أيضاً ب "مرّة فيه محشّش"!! - الحقيقة تَكَابَرْت أن أسألهُم ماهو "المحشّش"؟! ومن هوَ؟! فقد كانوا صغاراً في الصفّ الثالث الابتدائي، لكنّي أجزم كُلّ الجزم بأنّ صورة المحشّش في أذهانهم ستنحصِر في ذلك الداهية الذّكيّ الذي يخرُج من أي مأزق بسرعة بديهته ليكسب في النهاية إعجاب الجميع! - هذهِ هي الصورة التي تختزلها كُل (نُكَت المحششين) لتُعبئ بها ذاكرة النشء فتصبح هذه اللفظة وهذه الصفة بكُلّ تبعاتها وَعَتَباتها شيئاً مألوفاً وغير مستنكَر. طبعاً ليس من السهل السيطرة على فضاء النكتة ليتمّ تقنينها أو فرزها خصوصاً في ظل هذا الانفتاح الهائل - بل من الغباء أن نفكّر مجرّد التفكير في هذا الأمر - لكنّي أرى أن لا نُغفل جانب التوعيَة والتوجيه وذلك من خلال مشاركة أبنائنا "نكاتهم" البريئة مع تبيان ما هو جيّد وما هو سييء وما تعني هذه الصفة أو تلك، وعلى رأس هذه الملاحظات "المحشّش" في ظلّ سيادة نكتته وانتشارها. *** تغريدة أخيرة: كلّما مَرّت بي نكتةٌ تُظهِر دهاء "المحشّش" وذكاءه وفطنته ونَبَاهَتِه، شعرت بأنّ مؤلفها يريد أن يقول لنا: بأنّ "الحكمة: ضالّة المُدمِن"!