على مر الحقب والسنوات ظل المسجد النبوي الشريف مركزًا إشعاعيًا للعلم والمعرفة، بجانب ما له من مكانة مقدسة في قلوب المسلمين بوصفه مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم، ولعل أهمية هذا المسجد ومكانته العلمية كانت محط اهتمام العلماء والباحثين الذين تباروا في بيان هذه الأهمية، وتناوله من جوانب عدة.. وهذا ما ذهبت إليه الباحثة وأستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى حورية عبدالإله السملي التي ذهبت في دراسة أعدتها إلى بيان أهمية المسجد النبوي ودوره في مسيرة التعليم في المجتمع المدني، وتجاوز هذا الدور إلى خارج محيط المدينةالمنورة، مبينة أن هذا المسجد كان بمثابة الجامعة المفتوحة لنشر العلوم الإسلامية، مستعينًا في ذلك بمجتمع فيه من علماء أجلاء كانوا يمثلون مختلف المذاهب الإسلامية المعروفة، بجانب من يفد إليها من علماء الآفاق لمكانتها الدينية، فلا نجد حاجًا لبيت الله الحرام أو معتمرًا إلا وهو زائر للمسجد النبوي الشريف، وهذا الأمر جعل المدينة تغصُّ بعلماء الآفاق طيلة العام. وتفرد الباحثة فصلًا لدراسة النتاج العلمي للأسر العلمية في الفترة من (648 923ه/1250 1517م)، مدللة في سياقها على أن النتاج العلمي للأسر المدنية استوعب العلوم الشرعية من التفسير والقراءات والحديث والفقه والتوحيد، فلم يطغَ فرع على فرع، وكلٌّ حسب ميوله واهتماماته. كما أن هناك كثيرًا من الأسر التي قدمت من الشرق والغرب للمدينة المشرفة طلبًا للجوار في المدينة والحرم النبوي الشريف، فجاء من مصر خمس أسر هي (المطري، وابن صالح، والمراغي، والسمهودي، والسخاوي) وجاء من فارس ثلاث أسر هي: (الزرندي، والكازروني، والتستري)، وأسرة من تونس هي (ابن فرحون)، وأخرى من تركيا، وهي (الخجندي)، وأن هذا الاتساع الجغرافي يشير إلى أن المدينةالمنورة كانت تجذب العلماء، وكان المناخ مهيأ لنشوء الأسر من كل الجهات. وأوضحت الباحثة أن كثيرًا من الأسر العلمية يعود في حقيقته إلى أصوله العربية، من الأُسر المهاجرة، والتي عادت إلى المدينة النبوية، فنشرت العلم، وأحيت الشريعة طيلة العصر المملوكي. وكذلك أن بعض هذه الأسر تلتقي في النسب بالنسب الشريف كأسرة السمهودي، كما ألحقت المصاهرة لابن فرحون بالنسب الشريف، حين تزوَّج إحدى الشريفات بالمدينة. وبعض منها يلتقي بنسب الأنصار مثلما التقت أسرة الزرندي مع عكرمة بن أنس بن مالك الذي ينتمي إلى بني النجار من الخزرج. وتمضي الباحثة مشيرة إلى التباين في ذكر عدد العلماء الذين ظهروا في الأسر العلمية، فبينما ظهر في بعض الأسر عشرات العلماء خلال فترة البحث بالمدينة المشرفة، نجد في المقابل أُسرًا ظهر منهم ما دون العشرة، بل لم نجد من ظهر من أسرة السمهودي في البحث مكانًا وزمانًا إلا فردًا واحدًا، رغم انتشار أفرادها خارج المساحة المكانية والزمانية، ومع ذلك لم يتباين التأثير العلمي كثيرًا، فربَّ فرد بأمة، فها هو السيد السمهودي، قلَّ من لم يقرأ عليه من أهل المدينة، في حين يكون الكثير من علماء الأسر منجمعًا عن الناس يقل تلاميذه. وأن بعض الأسر العلمية قدمت إلى المدينةالمنورة طلبًا للعلم، بعد أن تنقلت بين مختلف البلاد من أجله إلى أن استقرت بالمدينة، مثل أسرتي الزرندي والخجندي، كما قدمت بعض الأسر من أجل العلم والمجاورة بالمدينة مثل أُسرة المطري الذي بعث به للميقات وابن صالح الذي عمل مبيضًا بالحرم، كما أن بعض الأُسر جاءت للزيارة أو الحج، ثم استقرت بالمدينة مثل أُسرة المراغي والسمهودي، وكانت مدة المجاورة تبعًا لراحة الأُسر وظروفها، فمنهم من امتدت به المجاورة إلى آخر عمره، وقد أقام بعض منهم خمسين عامًا بالمدينة، ومنهم من كان يذهب ويعود إليها. وأن الكثير من أفراد الأسر العلمية في بداية قدومهم إلى المدينة سكنوا الأَربطة، ومنهم من استأجر دورًا قرب المسجد النبوي، وبعضهم أقام بالمدارس التي كانت تخصَّص سكنًا لطلابه مثل المدرسة الشهابية، وقد أنجب أفراد الأسر العلمية أبناءً نشأوا نشأة صالحةً على درب آبائهم، ولا غرو فقد وُلِدوا في المدينةالمنورة فالتزموا بالأخلاق الفاضلة، وترعرعوا بقرب مسجد ومدينة رسول الله وبجواره.. ومن لم ينجب من أفراد الأسر العلمية كالسمهودي مثلًا ترك الكثير من الآثار الخيِّرة التي انتفع بها طلبة العلم من كتب وما سواها. وهناك تبادُل أبناء الأُسَر العلمية المعرفة والعلم فيما بينهم فقد درَّس بعض علمائها أبنائها الذين صاروا علماء من بعدهم، كما تعلَّم بعض أبنائها على يد آبائهم. وتتابع الباحثة حديثها عن أهمية المسجد النبوي في مسيرة التعليم في المجتمع المدني، مشيرة إلى أن الاهتمام بعلم الحديث ظهر في جُل الأُسر، وربما كانت الكتب الستة ولا سيما «صحيح البخاري» أكثر ما يعتنون به من الكتب الأمهات، كذلك كان الفقه الشافعي هو الغالب على تعليم الأسر، حتى من درَّس الفقه الحنفي، لم يخلُ من مطالعات شافعية، أما الفقه الحنفي، فقد اشتهر في أسرتي الزرندي والخجندي، كذلك ظهر اهتمام بالمذهب المالكي من خلال أسرة ابن فرحون، أما المذهب الحنبلي، فلم يظهر كمذهب يهتم به الأسر، إلا أفراد منهم بصفة خاصة لا عامة، أما بقية العلوم من التفسير والقراءات، والتاريخ، والمنطق، والكيمياء، وغيرها فلم تخلُ اهتمامات الأسر العلمية منها. كما أن أفراد الأسر العلمية لم يقتصروا في الدراسة على علماء الأسر، بل كان طلبهم على كل وارد من المدينة سوى من التقوه في رحلاتهم، وحيث كانت المدينة ملتقى علماء الشرق والغرب ولا سيما في الموسم، ولذا فلم يحتج الكثير منهم للرحلة في طلب العلم، واكتفوا بعلماء المدينة والواردين عليها، وكانوا كُثُرًا في كل علم وفن. وكذلك ظهور الإجازة كشهادة علمية معتمدة تعادل الشهادات العلمية في وقتنا الحاضر، ولم تكن تعطى للجماعة، بل كانت تعطى للفرد، فيعطيها الشيخ للطالب إذا تحقّق من فهمه لما درسه، ولا تمنح تلك الشهادة إلا بعد التأكد من كفاءة الدارس وأنه أَهلٌ لها، وقد يحصل الطالب على عدة إجازات، ومن عدد من الشيوخ. كما كثرت تصنيف (المشيخات) في نطاق الأسر العلمية، وهذا يشير إلى علو علم الحديث في المدينة النبوية، وكثرة طلابه بها. أما المجال اللغوي، فأبانت الدراسة أن جلُّ الأشعار والكتابات الأدبية يدور بعضها حول المدينة، كالمفاخرة بين قُباء والعوالي، وهذا النوع الذي مزج بين العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية لا يحسنه إلا أهل المدينة من العلماء الأدباء، فهي ثلاثة مصنفات في مصنف واحد. كما أن (تاريخ المدينة) هو الأبرز في المصنفات التاريخية لعلماء الأسر، وكان دافع ذلك واضحًا من سكناهم الحرم الشريف، ومجاورتهم بطيبة الطيبة، فرأوا أنه من الواجب أن يقدموا هذه المصنفات لتلك الأرض المباركة التي ترعرعوا بها. مبينة أن تكوين مجتمع أهل المدينة من أجناسه المتعددة شكل خليطًا له طابعه الخاص ومؤثراته في الحياة الاجتماعية. وكذلك انصهار الأسر العلمية في مجتمع المدينة، وأصبحوا من صميم ذلك المجتمع، وقد قام بعض العلماء الخيِّرين من أبناء هذه الأسر بالكثير من الأدوار الاجتماعية التي تخدم الأفراد والجماعات وتوفر سبل العيش في مجتمع المدينة، مثل حفر الآبار أو تجديد وتعمير ما خرب منها، ومن إنشاء الأربطة وتعميرها، والصلح بين الخصوم، وكذلك ما كان لهم من دور في رفع آثار حريق المسجد النبوي، ونحو ذلك من النوائب والملمات. وكذلك احتراف بعض أفراد الأسر العلمية الحِرف كالتجارة، وتحصيل أموال الأوقاف، وبيع الكتب والمتاجرة بها، إضافة إلى مهنة النساخة وتجليد وتهذيب الكتب.