تعامل الجابري في مسيرته العلمية مع القرآن إما للاستدلال أو للإحالة أو لاستنباط حكم عند الحاجة أو تقريره، وذلك لحكم تخصصه البعيد عن القرآن وعلومه، إلا أنه في سنة 2006م أقدم على مفاجأة أذهلت الكثير من الناس وأربكت الكثير غيرهم، وهذه المفاجأة لم يتوقف تأثيرها عند الإذهال والإرباك، بل تجاوزته إلى إحداث لغط وصخب كبيرين في الساحة المغربية على الخصوص، والساحة العربية بشكل عام وسط اتهامات بالتشكيك في سلامة القرآن من التحريف، والميل إلى تفسير القرآن الكريم حسب أسباب النزول على الطريقة العلمانية، وارتفعت أصوات المتتبعين، وشمرت أقلامهم عن سواعدها مسطرة كلامًا عنيفًا ضد الجابري رحمه الله بلغ حد مطالبة المؤسسات الدينية الكبرى كالأزهر الشريف وغيره بإعلان كفره وردته، كان لكل منا ردة فعل على إصداره لكتاب حمل عنوان (مدخل إلى القرآن الكريم في التعريف بالقرآن) والتهمة الأساسية التي وجهت إليه هي الادعاء أن القرآن به زيادة ولحقه نقص وحذف. ومع مرور الأيام وتتابع أجزاء الكتاب الأربعة المتعلقة بالقرآن في الصدور، بدأت الأصوات النقدية تخفت رويدًا رويدًا، ولم تصدر أي فتوى بتكفير الجابري أو ردته، بل لم تمنع كتبه حتى من تتابع إصدارها، وما ذكره الجابري من تصور حول القرآن الكريم لم يكن عاديًا في المغرب إذ إنها أول مرة يتهم أحد بالمس بقدسية القرآن، وكأن ذلك عد فتحًا لباب التطاول على القرآن الكريم، حيث نلاحظ مقالة في آخر فصل الربيع سنة 2009م، في صحيفة بعنوان: هل القرآن ما زال صالحًا لهذا العصر؟ ورغم صدور بعض الكتابات في بعض الصحف ومواقع الانترنت التي ترد على الجابري، فإنها في أغلبها اهتمت بالدفاع عن القرآن الكريم وتبرئته من كل تحريف أو نقص، وأهملت مناقشة كلام الجابري ونقده علميًا وموضوعيًا، فارتأيت تناول موقف الجابري من القرآن الكريم من خلال كلامه وليس كلام غيره، لنتعرف عن قرب ونمحص عن موقف الجابري من القرآن الكريم، ولنصل إلى جواب على سؤال: هل الجابري قال إن القرآن به نقص أو زيادة أو تحريف؟ وبداية قررت الاعتماد في هذا الموضوع على آخر كتابات الجابري المتعلقة بالقرآن الكريم والتي بلغت أربعة أجزاء، صارفًا النظر عما سطره قلمه بخصوص القرآن قبل أكثر من ثلاثين سنة، لعل رأيه المتأخر الذي جاء قصد وارادة، ولم يتحدث عرضًا، يكون ناسخًا لكل رأي له متقدم، ولعله يكون الرأي الذي يستقر عليه -وكان كذلك- حيث لا تبديل بعده ولا تغيير، وبخاصة أنه كان قد تجاوز السبعين من العمر لما كتب في هذا الموضوع. ليس الجابري من العلمانيين الذين أثروا من الحديث عن تاريخية النص القرآني، عكس محمد أركون الذي استفاض في ذلك إلى حد التخمة. فالجابري اختلفت رؤيته ومنهجه في دراسته للقرآن الكريم عن أعلام العلمانيين الذين شاركوه هذا الموضوع كأركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما، فهو وإن كان قد التقى معهم في أهمية المعالجة التاريخية، حيث يقول: (نسجل هنا شعورنا بأننا قد تمكنا من جمع شتات حقائق تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية نعتبرها ضرورية في أي فهم وبالتالي للإسلام) فهو كما قال قد قام بذلك ليطرح موضوعًا جديدًا هو التفكير في الظاهرة القرآنية، وفهم القرآن والإسلام معًا، وليس كما فعل العلمانيون الآخرون الذين اندفعوا إلى البحث عن مفهوم النص من خلال (تعقب الأحكام الفقهية منذ نشأتها في النص القرآني ومرافقتها في رحلتها الطويلة التي قطعتها في الفكر الإسلامي.. وذلك هو موضوع التاريخية). (فالتاريخية هي.. مبحث يقوم على مقومات الأصل التاريخي الذي اقتضى قيام حكم بعينه، وهو الخلفية التاريخية بجميع معطياتها الثقافية التي وجهت ذهن المفسر في تعامله مع الأحكام، وهي بذلك تلك المسافة الفاصلة بين أصل الحكم (كما نزل) والشكل (النهائي) الذي بلغه هذا الحكم، وهي بلا شك مسافة تاريخية، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحلى الحكم في تحوله التاريخي في ظرف زمني قصير، وإنما هو خاضع في تغيره إلى جملة هذه العوامل الثقافية التي تتميز بحركتها البطيئة التابعة للطبائع والسلوكيات الاجتماعية) هذا هو رأيهم. وقبل الاسترسال في الموضوع نروم معرفة الدواعي والدوافع التي حملت الجابري على الخوض في هذا الموضوع ودراسته مع العلم أنه ليس من أهل الاختصاص، إلا أن الجابري قد بلغ مكانة في الفكر العربي تؤهله للخوض في كل الموضوعات، وهذا من حقه، ففي الإسلام لا حجر على العقول ولا الأقلام. ولكن الذي يرتمي بين أمواج البحر ينبغي له إجادة السباحة، والا سيكون مصيره الغرق، وحاله حال المنتحر والجابري حصر الدوافع التي حملته على دراسة القرآن الكريم في ثلاثة دوافع كما ذكرها وهي: 1- ما جرى في صيف 2001 وما تلا ذلك من أحداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل، غيابه في الفعل الذي استثارها والذي كان هو نفسه نوعًا من رد الفعل، وما رافق ذلك من هزات خطيرة في الفكر العربي والاسلامي والأوروبي، كل ذلك جعلني (يقول الجابري) أنصرف إلى التفكير في (مدخل إلى القرآن)، مدفوعًا في ذلك برغبة عميقة في التعريف به، للقراء العرب والمسلمين وايضًا للقراء الأجانب، تعريفًا ينأى به عن التوظيف الايديولوجي والاستغلال الدعوي الطرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين، ممن قد يصدق فيهم القول المأثور (الإنسان عدو ما يجهل) على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل، عالم ما زال قائمًا إلى اليوم، هو (العالم العربي الإسلامي): هذا العالم الذي يجر معه ليس الماضي وحسب، بل (والمستقبل الماضي) كذلك، في وقت أضحى فيه سوقًا لترويج كثير من الشعارات غير البريئة، تصاعد من هنا وهناك، شعارات من قبيل (صراع الحضارات) و(حوار الحضارات) و(حوار الثقافات) و(حوارات الديانات) وأخيرا وليس آخرًا (الإصلاح) ليس الإصلاح السياسي وحسب بل (الإصلاح الديني) والثقافي وهلم جرا! 2- التجديد من الداخل يقول الجابري: (كانت استراتيجيتنا، وستبقى تقديم قراءات لموروثنا الثقافي تفسح المجال لعملية التجديد من الداخل، العملية التي هي وحدها القادرة على إتاحة الفرصة لنا لإعادة البناء. فعلًا، العملية طويلة وشاقة، ولكنها جادة: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). 3- استسهال الناس التعامل مع القرآن الكريم: يقول الجابري (شعرت أن الناس يتعاملون مع القرآن بسهولة غريبة عندما يفتون فقلت إنه لا بد أن اوضح للناس وللقراء أن الأمر ليس بتلك السهولة، وأن التعامل مع القرآن له شروط وأن فهمه يتطلب عدة وسائل ثقافية). إذا هي الرغبة في التجديد والمشاركة فيه والقيام به في جانب من جوانبه، والطالبة بإنزال القرآن الكريم المنزلة التي يستحقها وتليق به، فهل يا ترى حقق الجابري ذلك أو شيئًا منه؟ ربما يتبين لنا ذلك لاحقا. وإذا كانت تلك هي الدوافع فما المنهج الذي اخضع له الجابري دراسته للقرآن الكريم؟ يجيبنا الجابري بقوله: (اننا سنسلك المسلك نفسه الذي سلكناه في الأجواء الأربعة من كتابنا (نقد العربي العربي) مع الفارق: وهو أن لكل مقام مقالًا). إذا لا جديد لدى الجابري من يحث خطوات المنهج ومنطلقات الرؤية استنادًا إلى قوله فالجديد لدى الجابري هو في الموضوع وليس في المنهج أو في علاقة المعرفي بالأيديولوجي، كما هو معروف في مشروعه النقدي. ولكن ماذا قصد الجابري بالمقام والمقال، فلنستمع إليه يشرح لنا ذلك (فعلا لكل مقام مقال، ومقام (نقد العقل العربي) ليس هو مقام (مدخل إلى القرآن) فلا بد من اعتبار المقام كما قلنا. فمقام على الكلام أو الفقه أو الاصول أو الفكر السياسي والفكر الأخلاقي، يختلف عن مقام موضوعنا هنا. يجب ألا ننسى أن موضوع بحثنا هنا ليس مادة جامدة، ولا كائنات رياضية. ولا (إبداعات) أدبية ولا مجرد مساجلات كلامية أو نظريات عقلية.. بل هو من نوع خاص ينتمي إلى ما يعبر عنه (بالظاهرة الدينية) وهي تتميز عن الظواهر الحسية والشعورية والعقلية والخيالية بكونها (تجربة روحية) ومع أن الظواهر غير الدينية قد يحصر فيها الجانب الروحي، بهذه الدرجة أو تلك، فإنها تبقى مع ذلك مشدودة إلى موضوعها الحسي أو العقلي أو الخيالي، ومطبوعة بطابعه. أما التجربة فهي -على الأقل كما يصفها أصحابها- معاناة مع المطلق تقع وراء الحس والمحسوس والعقل والمعقول.. وغني عن البيان القول إن التجربة النبوية من أعلى قمم التجارب الروحية). وبعد هذا التمييز يعطينا الجابري رحمه الله مزيدًُا من التمييز في منهجه حيث يقول (لعل كثيرًا من القراء الذين يتابعون أعمالنا يذكرون أننا قد حددنا لأنفسنا منذ أزيد من ربع قرن (منذ مقدمة (نحن والتراث) 1980) منهجًا ورؤية فيما نقوم به من أبحاث في موروثنا الثقافي. من ركائز هذا المنهج/ الرؤية: جعل المقروء معاصرًا لنفسه ومعاصرًا لنا في الوقت نفسه. ولما كان الأمر يتعلق هنا بالقرآن فإن أحسن طريق إلى تطبيق هذا المنهج/ الرؤية في التعامل معه هو، في نظرنا ذلك المبدأ الذي نادى به كثير من علماء الإسلام، مفسرين وغيرهم، وهو أن (القرآن يشرح بعضه بعضًا). إذا هو تنازل عن بعض أسس المنهج العلماني لصالح الأخذ بمنهج إسلامي، فهو عمل محمود، لكن ما مصير باقي مراتب التفسير المأثور كتفسير القرآن بالسنة النبوية أو تفسير القرآن بالمأثور عن أصحابه، هل أقصاها الجابري في منهجه القرآني؟ يجيبنا الجابري عن ذلك بقوله (سنعتمد هذا المبدأ إذن، ولكن دون إقصاء الروايات التي يعتمدها (التفسير) بالمأثور إقصاء كليًا، بل سنتعامل إيجابيًا مع كل اجتهاد أو رواية نجد في القرآن ما يشهد لها بالصحة، من قريب أو بعيد ذلك هو سلاحنا ضد الوضع، سواء كان بدافع (الترغيب والترهيب) أو بدوافع منهجية أو سياسية، وهو سلاحنا أيضًا ضد الإسرائيليات، وأنواع الموروث القديم السابق على الإسلام). وتطبيق هذا المنهج يحتاج إلى آلة خاصة لتحقيقه، او إلى تمييز جديد من الجابري الذي يقول (ومن أجل تطبيق هذا المبدأ نرى أنه ينبغي التمييز منهجيًا بين شيئين: النص القرآني كما هو مجموع في المصحف من جهة، والقرآن كما نزل مفرقًا، أي حسب ترتيب النزول من جهة أخرى، ومن ثم التعامل مع كل موضوع نطرحه بشأن القرآن، حسب طبيعته، فإن كان مما ينتمي إلى النسبي والتاريخي رجعنا به إلى ترتيب النزول، وإن كان مما ينتمي إلى المطلق واللا زمني طرحناه على مستوى القرآن ككل بوصفه يشرح بعضه بعضًا ويكون الحكم فيه هو (قصد الشارع) وليس الزمن والتاريخ، وهذا لا يمنع من اعتماد المستويين معًا حين يقتضي الموضوع ذلك) إذا هو بعد صريح عن تاريخية التفسير القرآني، ومنهج متحرك محكوم بضوابط علماء التفسير. إذا الجديد لدى الجابري إنما يكمن في الموضوع وليس في المنهج، كما سبق لنا القول وذلك يتجلى في هدفه (الترتيب حسب النزول) والذي هو (التعرف على المسار التكويني للنص القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية فإن دور المنطق او الاجتهاد لا بد أن يكون مركزًا أساسًا على المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية، والمسار التكويني للقرآن). وهذه الدعوة، دعوة ترتيب سور القرآن حسب النزول لن تكون على حساب ترتيب المصحف، فهو (أي الجابري) مقتنع بأن الترتيب الموجود في المصحف هو الأنسب لدولة الإسلام.. يقول الجابري: (ونحن عندما نبرز هنا أهمية اعتماد ترتيب سور القرآن حسب النزول، لا نفعل ذلك على حساب ترتيب المصحف، فنحن مقتنعون بأن هذا الأخير كان هو الأنسب لدولة الاسلام وهي تخطو خطواتها في المدينة بعد وفاة الرسول، ذلك أن التشريع لهذه الدولة، في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة، كأن يتطلب فعلاً الرجوع إلى القرآن المدني، فهو قرآن مرحلة الدولة اساسًا، واذا كان جامعو القرآن في المصحف قد أدرجوا سورًا مكية ضمن السور المدنية، معتمدين في الغالب طول السورة مقياسًا للترتيب، فلأن كثيرًا من تلك السور المكية تشتمل على تشريعات وأحكام، أخلاقية في الغالب، تنظم حياة المسلمين الشخصية وعلاقات بعضهم ببعض). وهذا الترتيب الذي يسعى اليه الجابري إن لم يكن له مبرر زمن الصحابة فإن الحاجة اليه في هذا العصر تبررها مستجداته والحاجة إلى احكام تسايرها، يقول الجابري: (ترتيب المصحف إذن يبرره (العمل) زمن دولة الخلفاء الراشدين، وقد كان معظم الصحابة أحياء يحملون معهم في ذكرياتهم مسار الدولة المحمدية بما فيها ترتيب نزول سور القرآن، وبالتالي فهم لم يكونوا في حاجة إلى وضع هذا الترتيب حتى يفهموا ذلك المسار الذي كان اطارًا لحياتهم الشخصية، أما بعد ذلك، وعندما أخذت أجيال جديدة من المسلمين تعمر الساحة، فقد كان طبيعيًا لكل من يريد فهم القرآن أو استنباط احكام منه تغطي المستجدات، أن يشعر بالحاجة إلى معرفة ما اصطلح عليه ب(أسباب النزول)، الشيء الذي يقتضي ترتيب السور حسب نزولها. كما أن اعتماد هذا الترتيب في النزول مكنه- كما يقول- من ايقاظ الحيوية التاريخية التي لا بد منها لجعل موضوعنا معاصرًا لنفسه ومعاصرًا لنا في الوقت ذاته). ويرى الجابري أن اعتماد ترتيب النزول -وليس ترتيب المصحف- له فوائد عديدة منها تتبع قصص القرآن التي مكنته من إبراز وظيفة هذا القصص كوسيلة وسلاح للدعوة المحمدية في مواجهة خصومها، الشيء الذي ساعده على ابراز التساوق بين السيرة النبوية وتطور مسار الكون والتكوين الخاص بالقرآن. ووفقه لإصابة الحق لما قال: القصص القرآني ليس مجرد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسنة في الاقناع تدعو للاحتكام إلى العقد بعيدًا عن اسباب اللا عقل) ويؤكد الجابري أن التعامل مع قراءة المصحف لا يطرح أي اشكال اذ يمكن استمرار ما جرى به العمل في الغالب، من الاعتماد في مسألة من المسائل على نص من هذه السور او تلك ونبحث عن نصوص تشرحه او تساعده على فهمه الخ، ويمكن جمع نصوص، كيفما اتفق، واستخلاص منها ما تشترك فيه من أحكام أو أخبار الخ). ولكن الاشكال والصعوبة في التعامل مع القرآن حسب النزول، فذلك ليس سهلًا، لأنه يتطلب اولًا وقبل كل شيء، تبني نوع من الترتيب للسور).